ما أراه في الثنائية: يستقرّ النظرُ عندي على صحّة النظرية الثنائية، وصلاحها لتفسير شيء غير قليل من نشأة اللغة العربية والكشف عن العلاقات بين الجذور الثلاثية المتطورة من جذور ثنائية، وكذلك بعض الرباعيات المتطورة من تلك الثلاثيات ذات الأصول الثنائية، وأراها من أحسن النظريات اللغوية التي ظهرت في العصر الحديث، ودون غلوّ فيها؛ فهي تمثل مرحلة لغوية قديمة في اللغة، ويمكن تسميتها: مرحلة الطفولة، وكان تضعيف الحرف الثاني -ويسميه الصرفيون الثلاثي المضعّف - هو المرحلة الحاسمة في تطور الثنائية، وهو يمثّل مرحلة المراهقة وبداية القوّة والعنفوان، وكان هذا المشدّد هو الجسر الذي عَبَرَت عن طريقه الثنائيات إلى الثلاثيات، وينفرد عن غيره بأنه ثنائي من وجه وثلاثي من وجه. وبفضل هذا التضعيف انتقل الجذر الثنائي إلى جذر ثلاثي صحيح أو معتلّ عن طريق الفك والإبدال أو التعويض.
أما مرحلة النُّضج فهي مرحلة الجذور الثلاثية الصحاح وما بعدها من رباعيات وخماسيات. فالثلاثية هي الاختراع الصرفي العظيم الذي اكتشفته العربية، وعُرفت به في تصريفها ومعجمها الفريد. وقد كثر الوضع في هذه المرحلة حتى رأينا جذورًا لا صلة لها بالثنائية، وقد بلغ من أمرها في ذروة مرحلة النضج عند نزول القرآن بلسان العرب أن تلك الثلاثيات الوليدة في مرحلة النضج والاكتمال التي لا صلة لها بالثنائية هي جمهرة اللغة وقطب الرحى لمعجمها؛ فلا ندَّعي أنَّ كل ثلاثي وُلد من رحم الثنائي.
وأوجز تاريخ ألفاظ العربية من حيث التطور في ثلاث مراحل، هي:
المرحلة الأولى: مرحلة الجذر الثنائي المكون من مقطع أحادي (صامتين متحرك فساكن مثل رمْ وقطْ). وهذه هي مرحلة طفولة اللغة، ويظهر أنها مرحلة قصيرة نسبيًّا.
المرحلة الثانية: مرحلة المراهقة اللغوية والانطلاق، وهي مرحلة تضعيف الحرف الثاني الساكن في المقطع الأحادي، مثل: رمّ وقطّ. وهذه المرحلة بالغة الخطورة؛ لأن هذا الثلاثي المضعّف هو الجسر الذي عَبَرت عن طريقه الثنائيات إلى ضفة الثلاثي، وهي مرحلة أقصر من سابقتها، كانت كانكسار السّدّ وفيضان الماء.
المرحلة الثالثة: مرحلة الثلاثي وما بعده من رباعيات وخماسيات، وهي مرحلة النضج. وأعدّ الجذر الثلاثي قنبلة اللغة العربية الانشطارية التي فجّرت طاقتها، وأغنتها غنى فاحشًا في الألفاظ، كما أسلفت. وهي أطول المراحل الثلاث فيما يظهر لي، وأعظمها بلا شكّ.
ولم يكن انتقال اللفظ الثنائي إلى الفضاء الثلاثي الرحب إلا بعد تضعيف الثنائي، وتحويله إلى ثلاثي مضعف قابل للتحول أو التلوين الصوتي بالفكِّ مع الإبدال أو التعويض، كما سبق في الأحوال الثلاث. فكل ثنائي يتحول إلى الثلاثي بهذه الطريقة. والفك بالإبدال لا الزيادة المحضة هو الأداة. ويكون الإبدال في الحشو والتذييل، ويكون التعويض في الصدر، كما تقدم. ولا أرى قول القائلين بزيادة الحرف الثالث أو الثاني أو الأول. وهذه نقطة خلاف مع الثنائيين، نتجت من النظر إلى الحرف المشدّد. وكان تشديد اللفظ الثنائي الجسر الذي عَبَرت عن طريقه الثنائية في رحلتها التاريخية إلى الثلاثية.
ولما كانت الثنائية مرحلة تاريخية تمثّل نشأة اللغة أو طفولتها - إن صح التعبير - فإن اللغة بعد تحولها إلى الثلاثية، ووضعها الأسس الصرفية عليها وعلى الرباعي والخماسي، فإنها - أي الثنائية - قد هُجرت تمامًا، ولم يبقَ من مرحلتها التاريخية الأولى إلا أطلال قديمة متفرقة متناثرة في المعاجم، وأحافير لا تكاد تلحظها إلا عيون الباحثين لطغيان الجذر الثلاثي بجبروت التصريف. وما أشبه الثنائيات ببقايا أحيائنا القديمة جدًّا قبل قرون في مدننا الكبيرة حين طغى عليها العمران الحديث، والتهمها التوسُّع والتغيير المهول في الهندسة والعمران، فلم يبقَ منها إلا رسوم، لا يكاد يلحظها أكثر الناس. فأين تلك الأحياء الصغيرة القديمة من مساحات المدن الكبيرة وأحيائها الحديثة؟ وكذلك الثنائية إذا قيست بالتوسع اللغوي المهول الذي طرأ على العربية في عصورها الجاهلية الأولى التي لا نكاد نعرف عنها شيئا؟! ومن المؤكد أنها تمتد في الماضي آلاف السنين، وربما مئات الألوف كما يقول أحد الباحثين [في التطور اللغوي 86] قبل الساميين والحاميين والآريين، وأن اللغة العربية التي بلغت ذروتها في الإحكام الصرفي والنحوي عند نزول القرآن مرّت بمراحل حتى وصلت إلى ما وصلت إليه. (يتبع)
- أ.د. عبدالرزاق الصاعدي