ما كتبه الراحل جورج طرابيشي في مقالته الأخيرة - قبيل وفاته - (ست محطات في حياتي) يلخص تاريخ الأدلجة وواقعها في العالم العربي؛ كما أنها تنبئ عن شرخٍ أليم عاشه ويعيشه المثقف العربي حينما ينغمس في فكرانيته ويظل حارسًا لها بدلاً من كونه مطورًا لها، فهذه المحطات الست التي تدَرَّجَ عبرها الكاتب تشير إلى مراحل الأدلجة العربية منذ مطلع القرن العشرين وتثير تفكيرنا نحو منهجية المثقف العربي في هذا القرن؛ وإنْ كان ما كتبه طرابيشي يُعتبر شيئًا من سيرته الفكرية فإنها أيضًا سيرة العديد من المفكرين العرب الذين تنقلت أفكارهم بين هاته الأدلجات، إلا أن طرابيشي كان من نقمته أنه عندما ينغمس في الأدلجة فإنه يصل معها إلى القاع ثم يخرج منها غير مستسلمٍ لما بعدها؛ فبدأ منذ تدينه بالمسيحية؛ حتى تحزبه في البعث؛ فبحثه وكتابته حول محمد الجابري؛ ثم ترجمته لفرويد كلها تدل على فكر منكمش يروم العيش في دوائر يتنقل بينها من دائرة إلى دائرة دون أن يفكر في بحبوحة الفكر اللامنكفئ؛ وما كتابة طرابيشي لهاته المقالة في نهاية حياته بعد تقدمه في العمر، وفي هذه المرحلة بالذات إلا دليل على نقده لها ونبذه لذلك الانكماش الفكري الذي عاشه المفكر العربي في القرن المنصرم؛ فجلعها محطات متتالية تلغي بعضها بعضًا؛ بمعنى أن كل انتقال إلى محطة يحيل إلى نبذ هاته المحطة التي انتقل عنها ويثني على المحطة الجديدة حتى ينتقلعنها؛ وهكذا.
ولعل ما كتبه طرابيشي يجعلنا نحتاط من أمرين اثنين قد يهلك معهما الفكر والتفلسف وهما: الانكفاء على أدلجة واحدة، والانكفاء على مفكر واحد. وبزعمي؛ فإن الأول قد لاقى الكثير من النقد في الفكر العربي وبالخصوص في بداية القرن الجديد ونهاية القرن العشرين ممن عايش الأدلجة في بداية القرن، إلا أني أعتقد أن الأمر الثاني لا يزال مستهلِكًا للفكر للعربي أو للمثقف العربي؛ وذلك لملحظين: الأول هو سهولة البحث فيه؛ لأن جمع ما أنتجه مفكر واحد أسهل بكثير من استيعاب خارطة الفكر عمومًا عبر متابعة ما أنتجه العديد من المفكرين، والملحظ الثاني هو إدخال الجانب العاطفي في البحث والفكر؛ حينما يكون هذا المفكر قريبًا من باحثٍ ما نفسيًا وأيديولوجيًا فإنه يحفز الباحث على دراسة نتاجه والانكفاء على مشروعه، ولا أظن أن هذا يعني عدم البحث في نتاج مفكر ما بقدر ما يعني الاحتياط من الانكفاء عليه وجعله دائرةً يدور في فراغها.
وهنا سنعلم أن المفكر الراحل جورج طرابيشي ترك للجيل العربي المهتم بالفكر من بعده محطةً لم يعش تفاصيلها هو؛ ولم يتسنَّ له الكتابة ضمن بحبوحتها ألا وهي محطة الفكر اللامنكفئ على أدلجة ما أو على مفكر ما. فهل ستكون هذه المحطة هي الأخيرة أيضًا؟! أقول: لا للانكفاء.
- صالح بن سالم
_ssaleh_@