عودة سدير، عروس الزمن الأنيق، مدينة ترفل بعبق التاريخ، الأسطورة الجاثمة على صدر الأيام، قصة الصولجان الذي كان، إحدى أقدم الحضارات التي نشأت في تاريخ التجمعات العمرانية القديمة، وبالرغم من أنها كانت تتبوأ موقع الريادة ردحًا من الزمن خلال تاريخها الموغل في القدم، وكانت مشرقًا للشمس لسنوات طوال، ومنبرًا للثقافة والأدب في حقبة زمنية فريدة، إلا أنها في فترة من الزمن تخلت عن موقع الريادة ذاك، وتوارت خلف ألوان الغروب، ربما كان ذلك توارياً لكتابة التاريخ من جديد، في صفحات أنصع بياضاً، وأكثر زخماً. يقال «أن البيئة تكون ذات معنى عندما يبدأ الإنسان يشعر بالانتماء إليها، وأن هوّية المكان ترتبط بمفهوم المعنى، حيث يمثل المعنى وظيفة أساسية تتضمن الإحساس بالمكان والتفاعل معه».
اليوم، وفي القرية التراثية بعودة سدير، الماضي يعود إلى قلب المستقبل، في رحلة بدأت على أيدٍ «شابة» و»طموحة»، بقلوب يملأها الأمل، ويكتنفها الحب، ويحفزها «الحلم» نحو مستقبل أفضل، إنها كاريزما الشباب التي أعادت لتلك العروس ذلك الحضور، وجعلت شمسها تشرق من جديد، ودفعت بها إلى موقع الريادة، دافعهم في ذلك العمل والإنتاج والانجاز، إنها تجربة فريدة لأولئك الشباب الفاعلين، هم من علق الجرس، وتحركت بأصواتهم المياه الراكدة، وبدأت الحياة تدب من جديد في جسد ذلك المكان القابع على ضفاف الفقي، إنه زمن الطموح، فبالرغم من الكثير من التحديات والمعوقات وضعف الموارد والإمكانيات وهجرة العقول والكفاءات، وفي ظل صعوبة التنسيق والتواصل وتكوين فرق العمل، إلا أن الإرادة الحقيقة كانت الفيصل، في كلمة البدء نحو رحلة تحقيق الهدف، فكانت التجربة والانجاز.
كأحد أبناء هذه المدينة، وشاهدا لعربة التاريخ، يمكنني القول إن التطور الذي طرأ على مفهوم المشاركة المجتمعية في تجربة تأهيل القرية التراثية بعودة سدير يعتبر نموذجا وطنياً «فريداً» في التنمية المحلية، وقيادة التطوير، فالهدف التطوعي والرغبة في عمل شيء مختلف كانت الدافع الوحيد لفريق العمل الذي قاد إلى هذا المنجز المجتمعي، فالإنجازات لا تقاس بحجمها بل بالظروف التي ولدت فيها وبتأثيرها على محيطها المكاني والاجتماعي، القدرة على تنظيم الصفوف وتكوين فريق العمل كانت الخطوة الأولى وحجر الزاوية في صياغة تلك التجربة التي استطاع أبناءها من خلالها التفوق على أنفسهم وتجاوز بوابة البداية للعبور نحو الجانب الآخر، والصعود للقمة، توج ذلك بتقديم مدينتهم على منصة التتويج في محفل تكريم وطني للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني كأفضل تجربة للمجتمع المحلي في المحافظة على التراث العمراني بمنطقة الرياض.
شكراً لأولئك الشباب الطموح، والذين أخذوا على عاتقهم صناعة التغيير، وتحمل العناء، والتعب، والسهر، من أجل خدمة مدينتهم ومجتمعهم، شكرا لكل من أعاد لهذه المدينة الحالمة الحياة من جديد، شكرًا لكل من استشعر مسئوليته تجاهها، شكرًا لكل من تفاعل مع هذا الحراك المثمر، شكرا لك من بادر وبنا وساهم. إن إنصافنا لهذا الشباب المفعم بالحماس والحيوية والنشاط والذي تبنى اقتحام الواقع وخوض معركة التحدي نحو تحقيق الهدف، والأخذ بزمام الأمور، لن يكون إلا بدعمهم ومؤازرتهم والوقوف معهم وتشجيعهم والمساهمة في تذليل الصعوبات والمعوقات التي تواجه مسي رتهم، فللمجد بقية، وحكاية لم تروَ بعد.
- متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن