يعيش الإنسان في هذه الحياة الدنيا في تسارع عجيب، وتلاحق مذهل للأيام والليالي، وتصرم للأوقات.. يتبعه - ولا شك - تغيُّر في الحياة، وتحوُّل في مظاهرها، وتطوُّر في معالمها.
ومن ذلك ما تطالعنا به وسائل الإعلام بشكل مستمر من أخبار أولئك الذين تشرفوا بثقة ولاة الأمر، وحازوا الترشيح للمناصب المميزة في الدولة، أو تسنموا رئاسة شركات ومصانع ومؤسسات في القطاع الخاص!
وإضافة إلى ما تحمله تلك المهمات من تشريف ومنح ثقة ولاة الأمر ومكانة اجتماعية ومنصب.. إلا أنها في حقيقتها تكليف أكثر مما هي تشريف!!
تكليف لمن وعى ثقل الأمانة وعظم المسؤولية.
تكليف لمن أدرك أنه مسؤول أمام الله تعالى ثم أمام مَن ولاه المهمة، وأمام البشر الذين تتعلق بهم تلك الواجبات والمسؤوليات والخدمات.
ومسؤول أمام نفسه، هل حقًّا أبرأ ذمته، ورضي هو عن مستوى أدائه قبل أن يطمح إلى أن يرضى عنه الآخرون؟؟!!
تكليف أمام من أيقن أن المنصب مهما عظم فلا يدوم إلا وجه الله سبحانه وتعالى، فمن أحبه لشيء تركه لفقده، ومن أكرمه لمنصب ستذهب كرامته بذهاب المنصب، ومن خدمه لشيء تجرد من الخدمات بفقد هذا الشيء!
وإن هذا المنصب لو كان دائمًا لأحد لما وصل إليك الآن!
فكما وصلك اليوم فثمة من يترقب محطته القادمة ليصله أيضًا {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.
إن المسؤولية الكاملة تتحقق حتى في المناصب التي لا يؤدَّى فيها القَسَم، بل في الحياة كلها، حتى ربة المنزل في بيتها وتربيتها لأبنائها وحفاظها على نفسها وبيتها بما فيه ومَن فيه، والعامل في ماله أو مال سيده.. فـ»كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»؛ إذ يجب العمل فيها بكل أمانة وصدق وإخلاص وجوبًا عينيًّا، وأن نوطد عليه أنفسنا، ونربي عليه أبناءنا، ونغرسه داخل أسرنا، ونذكّر به مَن حولنا، ونتمثله قيمة ثابتة في أقوالنا وأعمالنا كلها.. إلا أن أداء القَسَم في المناصب الحساسة يزيد من عظم الموقف {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
إن المتأمل في ألفاظ القسم وهو يسمع:
«أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصًا لديني، ثم لمليكي وبلادي، وأن لا أبوح بسر من أسرار الدولة، وأن أحافظ على مصالحها وأنظمتها، وأن أؤدي أعمالي بالصدق والأمانة والإخلاص».. لتقشعر منه الجوارح، ويتحرك القلب؛ فما بالك بمن يؤديه وينطقه، ويتعهد بالالتزام به؟
فمرتكزات القسم الرئيسة: الإخلاص، الأمانة والصدق.
غاية في شمول الأداء والنصح والإتقان والجودة، والمحافظة عليها تعني الوفاء بمقتضياتها، والترفع عما لا يتماشى معها، وتقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية، وأن يكون للإنسان من نفسه بصيرة يقظة حية، وضمير يستشعر دائمًا وأبدًا اطلاع الله عليه فيما يقول ويفعل، وتحثه على السير فيما فيه رضا الله سبحانه، وإبراء الذمة أمام الله تعالى {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
بذلك يتحقق الإحسان الذي يعده العلماء أعلى مراتب الدين: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
إذا تحقق لنا ذلك فقد بلغنا قمة الخير والعدل والجودة والتقدم والمجد والحضارة والرقي.
مسؤولية عظيمة، ومهمة جدُّ جسيمة.
أسأل الله أن يوفق كل من ولي من أمور المسلمين شيئًا لصالح القول والعمل، ويبارك له في وقته وعمره وصحته وماله وذريته، وأن يعينه على خدمة الإسلام وما فيه نفع البلاد والعباد، ويجعله الآن خير خلف، وفيما بعد خير سلف، ويوفق ولاة الأمر إلى ما فيه عز الإسلام والمسلمين، وأن يحفظ علينا ديننا وأمننا وبلادنا وجميع المسلمين، ويجعلنا جميعًا في سائر شؤوننا وأحوالنا من المحسنين الذين قال الله فيهم: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ...}.