العملية التعليمية لها ثلاثة أطراف: المعلم والمتلقي وما سيتم تعلمه، في حالة التعليم المؤسسي هم المعلم والطالب والمنهج الدراسي. أول طرف في المعادلة هو من لدينا المشكلة الأكبر معه؛ لنتتبع الطريق الذي يسلكه الشخص لدينا حتى يصبح معلماً: حسب دليل تصنيف الوظائف الصادر من وزارة الخدمة المدنية أن المؤهل المطلوب لوظيفة مدرس هو الشهادة الجامعية «في أحد التخصصات التربوية أو أي تخصص مناسب لأعمال التدريس» هذا يعني بأن أي حامل لدرجة البكالوريس مؤهل ليكون معلماً ومربياً حيث إنه لايشترط المرور بأي إعداد تربوي أو تأهيل للتعامل مع العملية التعليمية. قد يكون هذا كافياً لو أن من سيتم تدريسه قد بلغ من العمر ما يجعله يبحث عن الإرشاد العلمي فقط مثل طلاب الجامعة، ولكن طلاب التعليم العام لم يبلغوا ذلك بعد فهم بحاجة إلى التوجيه والإرشاد التربوي بقدر حاجتهم إلى العلمي إن لم يكن أكثر.
لنقارن هذا بشرط نظام التعليم الفنلندي للحصول على وظيفة معلم: حسب مجلس التعليم الفنلندي يجب الحصول على درجة الماجستير في أحد برامج تعليم المعلمين للتقدم لوظيفة معلم، هذه البرامج تقدمها مؤسسات التعليم العالي في فنلندا، وقد تقدم للاختبار الوطني لبرامج تعليم المعلمين في عام 2013م 12.493 متقدم تم اختيار 886 منهم لدخول البرامج.
ماذا يمكننا أن نستخلص من الإجراء الفنلندي لاختيار المعلمين؟ النتيجة المباشرة والرئيسية هي الحصول على معلم يحمل الدلائل الكافية على الكفاءة العلمية والتربوية والبحثية والقدرة على التطور مما يسمح بمنحه الثقة لتشكيل عقول النشء وصقل شخصياتهم ومساعدتهم على اكتشاف قدراتهم المختلفة و استكشاف العلوم والأدوات البحثية. النتيجة الأخرى المهمة لذلك الإجراء في الإختيار هو الحصول معلمين لديهم حس عالٍ بالمسؤولية التي يحملونها.
في مقابلة مع الدكتور باسي سالبيرق ، أحد كبار المسؤولين في وزارة التعليم الفنلندية، حين كان في زيارة للولايات المتحدة الأمريكية، سئل عن كيفية قياس أداء الطلاب والمعلمين في بلاده إن لم تكن هناك اختبارات قياسية دورية للطلاب؟ حيث إن المعلم في النظام الفنلندي هو المسؤول عن إجراء تقييم مستقل لطلابه عبر أدوات يختارها أو يبتكرها ولا يوجد سوا اختبار وطني واحد بعد إتمام مرحلة التعليم العام العليا. وسئل كذلك عن كيفية محاسبة المعلمين المقصرين وتمييز الجيدين بدون اختبارات القياس المتكررة ولكون المعلم لديهم هو المسؤول عن تطوير قدراته ومتابعة مايستجد في مجاله؟ فأجاب ببساطة بأن المحاسبة هي الشيء الذي يتبقى بعد استبعاد المسؤولية.
لنعد الآن إلى معلمينا، هل هم يمتلكون تلك الأدوات التي يمتلكها نظرائهم في فنلندا؟ والأهم من ذلك، هل لديهم الحس بالمسؤولية التي منحهم إياها المجتمع تجاه أبنائه؟ لا أعتقد بأن الغالبية العظمى منهم قد نظر إلى عمله في التعليم من هذه الزاوية، فهم يرون بأنه مجرد وسيلة للحصول على دخل ثابت يسدون به حاجاتهم الأساسية بينما يسعون خلف مصادر أخرى للدخل. وهم بذلك أقفلوا أي باب يمنح طلابهم فرصة التطور.
بعد فترة وجيزة من اعتماد اختبار المركز الوطني للقياس والتقويم كشرط للقبول في الجامعات السعودية أصبحت الدرجة التي يحصل عليها خريج التعليم العام من ذلك الاختبار ذات وزن أكبر من الدرجة التي حصل عليها من مدرسته بعد تخرجه. السبب في ذلك يعود إلى عدم ثقة الجامعات بالتقييم الذي يمنح لخريجي التعليم العام. يضاف إلى ذلك استحداث سنة دراسية إجبارية للمقبولين في برامج البكاليريوس سميت بالسنة التحضيرية، الهدف منها إعادة تجهيز الطلاب علمياً للانضمام للجامعات، مما يدل على عدم قناعة أجهزة التعليم العالي بنتاج التعليم العام.
الضعف في جودة إنتاج التعليم العام يعود بكل تأكيد إلى اختلال في أطراف معادلة التعليم السابق ذكرها، والحري بنا أن نعي الخلل في تلك المعادلة ونعمل جدياً على علاجه بدلاً من السير في طريق لانهاية له نعالج خلاله الأعراض المتجددة لذلك الخلل.
يذكر بأن جامعات إمارة دبي واجهت ذات المشكلة التي تواجهها الجامعات السعودية في ضعف جودة التعليم العام وقُدم اقتراح إلى مجلس الإمارة باستحداث سنة تحضيرية في الجامعات، فكان القرار بتحويل أي ميزانية كانت لتصرف على ذلك الاقتراح إلى التعليم العام ليتم تطويره وإصلاح اختلاله.
السؤال الجوهري الذي يجب أن نتوقف عنده ونجيب عليه قبل أن نفكر في أي حل لمشاكل المعلمين لدينا هو: ما الذي سبب أن يكون التعليم مجرد مصدر لراتب ثابت لايأخذه المعلم على محمل الجد؟
أجابتي سأتركها مبهمه وسأكتفي بالقول بأن المشكلة تتعدى نطاق وظيفة المعلم إلى دافعية مجتمعنا كاملاً؛ ماهو مقياس مجتمعنا الحالي لقيمة الفرد؟ ما هو الدافع الذي يجعل الفرد في مجتمعنا يصحو كل صباح ويخرج من داره؟
الأهم من ذلك بماذا يوصف من يخلص في عمل لايدر عليه مردوداً مالياً يعتبره العامة مجزياً؟ «مسيكين، مضيعٍ وقته»