الذي يلتقي بـ سلمان بن عبدالعزيز يتعجب من معرفته بالأسر والقبائل والبلدان، وربما تذهل بمعرفته الدقيقة بأسرتك ورموزها، بل يتعدى بالسؤال عنهم وذكر مواقفهم وأفعالهم.
لكن هذا العجب يزول كما قال الراحل فهد المارك في كتابه الشهير «من شيم العرب» الصادر عام 1375هـ، حيث ذكر قصة تدل على شهامة ومروءة سلمان، ثم قال ما نصُّه: «وعلى كلٍ فإنَّ من يكون له أبٌ كعبد العزيز لا يُستغربُ منه ذلك وإنما يستغرب منه العكس»، وأضاف: «سلمان هو أحد أنجال الملك عبدالعزيز آل سعود، كما أنه أشبه أنجاله به خُلُقًا وخِلقَة».(1)
هذا هو سلمان بن عبدالعزيز وريث الملك والرئاسة والشيم العربية الأصيلة، وريث عبد العزيز موحدِ هذا الكيان والخبير به وبأهله، هو الطرف الأول في علاقة نادرة جمعته في إمارة الرياض مع وريث ولاء - لعلاقة امتدت أكثر من خمسين عاما - تستحق الإشادة والنشر ليطلع العالم أجمع على العلاقة الفريدة التي تربط بين قادة هذه البلاد وشعوبهم، وليعلموا أنها مبنيةٌ على المحبة الراسخة والعقيدة الصافية.
الولاء المتوارث
سكنت حمولة آل رشيد الهزاني مكانا تسمى باسمهم «الهزانية» جنوب الدلم بالخرج، وذلك بعد نزوحهم من موطنهم الأصلي «وادي الحريق»، وكان لهم فيه الانتشار والذكر يقول الألماني ماكس أوبنهايم 1860م -1946م: «كان بنو هزان القبيلة الرئيسة من عنزة في جزيرة العرب، وكانت منطقتهم بين واحة الخرج الحالية وحريق»، ثم قال: «بقي بنو هزان تحت اسم الهزازنة في منطقتهم القديمة».(2)
ويقول الأديب السعودي الشهير عبدالله نور في مقال تناول علاقة حنيفة وعنزة بن أسد ومنازلهم ما نصّه: «ومازال الهزازنة شيوخ نجد يسكنون في هذه البقاع وهم رجال أشداء وأشراف كرماء، ساهموا بقدر وافر مع المرحوم الملك عبدالعزيز في توحيد المملكة، وما يزالون يؤدون أدوارهم على خير قيام».(3)
وآل رشيد من آل حمد من بني زياد بن العلاء بن زياد بن بكر بن إياس بن روق بن العاتك بن عمرو بن كليب بن ضور بن رزاح بن مالك بن سعد بن وائل الهزاني، وهم يعدون أول من سكن الخرج من قبيلة عنزة، بل كانوا يمثلونها في الخرج، إذ لم يكن يسكنه من عنزة غيرهم، تشير إلى ذلك المصادر المتقدمة حيث نقل الفرنسي فيلكس مانجان عن كورانسيه في كتابه (تاريخ الوهابين حتى عام 1224هـ): «من أقاليم نجد: إقليم الخرج.. ومن قبائله الهزازنة، وإقليم الدرعية: مسكن سعود وآله».(4)
وقد اشتهر آل رشيد بالفروسية والشجاعة والسؤدد، حتى أصبح حسن بن رشيد الهزاني عميد الهزازنة بالخرج، قال جون فيلبي في كتابه العربية السعودية عن قتلى الدرعية سنة 1233هـ: «الأمر الذي أسفر عن موت العديد منهم بمن فيهم أول قتلى من أسرة آل سعود الحاكمة، وهم: فهد بن تركي، ومحمد بن حسن بن مشاري، إضافة إلى حسن عميد أسرة الهزاني».(5)
وبعد قيام الدولة السعودية الأولى في الدرعية على يد المحمدين - رحمهما الله - كان آل رشيد من أشد الموالين للدعوة السلفية وقادتها، بل ضحوا بأرواحهم وأوطانهم في سبيلها غير مبالين بذلك، يتضح هذا في حصار الدرعية حيث هب الفارس حسن بن رشيد الهزاني المعروف بـ»أخو نوضا» وأخوه راشد الذي عرف بـ»ثعلب» للدفاع عن الدرعية وعن قادتها، وفي معركة غبيراء استمات الفارس الشجاع حسن الهزاني في الدافع عن قائده الشرعي وعاصمة بلاده الدرعية، حتى نال شرف الشهادة بجوار الأمير الصنديد فهد بن تركي بن عبدالله رحمهم الله جميعًا.
أضحية تشهد على التضحية
ثعلب.. اللقب الفخري
بعد سقوط الدرعية عام 1233هـ تفرغ الأعداء لمطاردة الموالين لآل سعود واستماتوا للقضاء على راشد والذي استخفى عن الأنظار فلم يعرف مكانه، وحاول (جوقدار) القبض على راشد إلا أن محاولاته باءت بالفشل، فأشار عليه بعض الناس بأنك لن تستطيع القبض على راشد إلا بالخدعة، وأن يستميل من يثق فيهم ليعمل وليمة عشاء خاصة يدعو فيها راشد ثم يقبض عليه أثناء الوليمة بعد أن يضع سلاحه، فتم ماخطط له جوقدار ولكن كانت إرادة الله فوق إرادته، فكان راشد حذرًا من نسمة الهواء ولا غرو، فهو مطلوب من دولة من أقوى دول العالم حينها، أحس البطل برائحة الخيانة في حركات المضيفين وكلماتهم، فترك عباءته وسلاحه وخرج من باب آخر، وعندما علم جوقدار بما صنع راشد قال كلمته المشهورة: «هذا ثعلب لن تقدروا عليه» فأصبح من ذلك اليوم لقبًا فخريًا ظاهره الذكاء وباطنه الولاء.
قلت: وهذه الطريقة الغادرة ليست بغريبة عليهم، فقد قرأت عند الكابتن البريطاني سادلير من نفس الفترة يشير فيها لاغتيال أربعة أمراء من أسرة آل عفيصان سنة 1234هـ في رسالة قال فيها: «كان يسكن الخرج أربعة شيوخ بالقرب من السلمية، وهم من سلالة عفيصان، أوهمهم الباشا بالأمان ثم قرر أن يفتك بهم، إذ أمر جوقدار - باشا السلمية - بذلك، لكنه لم يستطع أن ينفذ أوامر سيده بشكل مكشوف، لأن تعداد مجموعته لايتجاوز خمسين رجلاً، فلجأ إلى الخيانة والغدر، إذ دعا الشيوخ إلى وليمة اختتمها باغتيالهم جميعا».(6)
وكان آل رشيد من المدافعين مع الإمام فيصل بن تركي أثناء حصاره في الدلم، فلما انتهى الحصار وقُبض على الإمام، خرّب خورشيد باشا محلتهم في زميقة التي تسمى (قصور الهزانية) وأجلاهم عنها.(7)
وبعد تخريبها تفرقوا فمنهم من اتجه للسلمية ومنهم للعذار والحريق ، وفي الحريق رشيد بن عبدالله بن ثعلب كان أميرًا على القوافل و الحج والمهمات في عهد الإمام فيصل بن تركي، وكان شجاعًا صاحب رأي، واشتهر باقتناء الخيل الأصيلة. وقد ورثه محمد بن أحمد الهزاني (والد المترجم له) في وثيقة بتاريخ العاشر من شوال عام 1358هـ أثبتها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله- قاضي الخرج حينها- وكتبها الشيخ راشد بن صالح بن خنين.
وما عبدالله بن محمد إلا درة في عقد ولاء آل ثعلب المتجذر في صدورهم
لأوطانهم ولقادتها
ابن ثعلب.. مرافق سلمان
ارتبط اسم ابن ثعلب بسلمان بن عبدالعزيز ارتباطًا وثيقًا، فلا يذكر ابن ثعلب إلا بـ خوي سلمان، فانتشر هذا الاسم بين أقاربه وجماعته وأهل العارض، ولعل القارئ قد استنبط كنه هذه العلاقة وسر تميزها، فمن هو ابن ثعلب؟
هو الرجل الكريم والشيخ الحشيم عبدالله بن محمد بن أحمد بن عبدالله بن راشد «الملقب ثعلب» آل رشيد الهزاني، سليل الولاء والإخلاص منذ بزوغ الدولة السعودية الأولى في الدرعية، ولد عبدالله في قرية العذار من مدينة الدلم بالخرج عام 1337هـ، وأمه نورة بنت راشد الهذيلي من قبيلة هذيل، ونشأ في كنف والده الشيخ محمد بن أحمد الذي كان طالبًا للعلم مشهورا بالتدين محبًا للعلم وأهل الفضل والدين والتاريخ، فنهل من منهل والده، وظل حب آل سعود في قلب وروح الشاب عبدالله كما كان في أسلافه من قبل، فهذا جده أحمد بن ثعلب يخاطب الإمام فيصل بن تركي - ثاني حكام الدولة السعودية الثانية - بلقبهم الفخري «ثعلب».(8)
ثم بعد وفاة أبيه عام 1364هـ قرر عبدالله بيع ملكهم (الحويط) في العذار، فشابٌ ذكيٌ ألمعي يحمل روحا وقّادة ونفسا وثَّابة لم يستمع لنداءات البقاء في أملاك آبائه وأجداده(9) فقرر اللحاق بأسرة ارتبط حبهم بدمه وولاؤهم باسمه، فوفد على ليث الجزيرة اوموحد شتاتها لعربية الملك عبدالعزيز - طيّب الله ثراه- فأكرمه وعرف قدره وأهداه بندقية خاصة(10)، ثم لازم بعدها الأمير سلمان بن عبدالعزيز منذ عام 1368هـ لتبدى صفحة جديدة في حياته ، وبعد أن تولى سلمان إمارة الرياض عام 1373هـ انتقل معه، وكان عبد الله يراهن على براعة وبزوغ الأمير الشاب، وكان يردد جملته المشهورة (أنه حر من ماكر حرار).
وإذا كان آل راشد بن رشيد «آل ثعلب» قد أخذوا بحظ وافر في الشجاعة والإقدام إلا أن الذكاء والدهاء كان ملازما لهم، فكانوا ميامين الرأي مباركي المشورة، لا يكاد يخطئ لهم رأي ولا يخيب لهم ظن ،وقد عرف له أقاربه ذلك فكانت له الكلمة المطاعة والرأي السديد فوضع النواة الأولى لاجتماع أقاربه منذ سنة 1380هـ.
فكان سلمان يعرف له ذلك وهو صاحب الرأي السديد والحدس الرشيد، فقرَّبَ ابن ثعلب وأدناه، وأرسله للمهمات الصعبة والمدلهات الخطيرة، فكان خير وصف له ممن عرفوه «يسد اللزوم» بل لا يترك أمرًا وإن عظم إلا أتمّه وأنهاه حسب طلب الأمير، فنال بذلك المكانة العالية والمنزلة السامية عنده حتى عُيِّنَ «رئيس الخويا» عام 1397هـ.
ظل ابن ثعلب رأيًا ثاقبًا وسيفًا قاطعًا في يد أمير الرياض حتى كبر سنه وضعفت قواه، فأذِنَ له الأمير بالبقاء في بيته وأن يأتي متى أراد، فكان شوقه يغلب ضعفه، وأنّى للشوق أن يغلبه شيء! فكان يتحامل على نفسه إلى إمارة الرياض للسلام ورؤية من عاش عمره معه وأمضى حياته عنده، وظل يتعاهد إمارة الرياض باستمرار حتى توفي - رحمه الله - في 2-8-1418هـ في مدينة الرياض، عن عمر ناهز الثمانين عامًا، وله من الأبناء: محمد وحمد وهم يسكنون الرياض حاليًا، لتطوى بذلك صفحة وفاء يندر وجودها اليوم دامت أكثر من خمسين عامًا.
رحم الله ابن ثعلب وأدام عز سلمان بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين ملك الوفاء ومكارم الأخلاق وجعل النصر حليفه والتوفيق قرينه.
** ** **
الهوامش:
«1» فهد المارك ، من شيم العرب ، الطبعة الرابعة 1408هـ
«2» ماكس أوبنهايم ،كتاب البدو ، الجزء الأول، تحقيق ماجد شبر ، طبعة الوراق/ ص121 .
«3» جريدة الجزيرة، 12-9- 1417هـ الموافق 21-1- 1997م العدد 8881
«4»فليكس مانجان ، تاريخ الدولة السعودية الأولى ، ترجمه محمد البقاعي ، طبعة دارة الملك عبدالعزيز/ ص385 .
«5» جون فيلبي ، العربية السعودية ، مكتبة العبيكان ، الطبعة الأولى 1422هـ، ص256
«6» من رحلة عبر الجزيرة العربية خلال عام 1819هـ كتبها الكابتن/ ج .فورستر سادليرط2 1334هـ ص100 تحقيق/ سعود بن غانم العجمي.
«7» ذكر ابن بشر في حوادث سنة 1254هـ أن أهالي زميقة تركوها خاوية على عروشها خوفا على نسائهم وعيالهم.
«8» تم تزويد دارة الملك عبدالعزيز في سنة 1428هـ بوثائق أسرة آل ثعلب.
«9» حاول الشيخ أحمد بن حسن بن أحمد الهزاني ساكن السلمية ثني عبدالله عن بيع ملكهم حيث أرسل له بكرتين معسوفتين من الإبل لكي يواصل مسيرة والده في إحيائه فقال عبدالله: ليس لي رغبة في الحلال بعد وفاة والدي.
«10» لازالت البندقية محفوظة ضمن مقتنياته لدى أبنائه.
...................
د. سعد الهزاني - طبيب وكاتب في التاريخ الوطني
sash380@hotmail.com