عندما تشاهد الأسد في غابته تتعجب من قوته وهيبته ، فهو يظل جالسا والجميع يخدمه ويعترف ببأسه ويخاف سطوته ، ثم تسمع زئيره فإذا هو يزلزل من يصغي إليه ويدخل الرعب في قلبه ، ولعل هذا ما جعله يتبوأ منصب ملك الغابة ، ثم تنظر إلى شكله وملامحه وتلك اللحية الكثة التي تحيط وجهه وحركته وجلسته ، كلها صور وتفاصيل تليق بزعيم الغابة وسيدها ومن غيره . لكن هل كل من حمل اسم الأسد في المنزلة نفسها ؟ فبعضهم جمع بين الاسم وقلة الحيلة وسوء الفعل وضعف الجانب ، ويكفي أن تمر سريعا على نشرات الأخبار حتى ترى شكل الزرافة وفعل الفأر واسم الأسد .
لكن هل الأسد الحقيقي شجاع فعلا ؟ وهل جميع الحيوانات تخافه فعلا ؟ وهل الثعلب ماكر والحمار غبي والذئب غادر ؟ إن مراقبة أقوال الناس وطريقة توظيفهم لأسماء الحيوانات يتلمس جوانب مهمة من منطقهم ونظامهم في بناء تصورهم للوجود من حولهم . فبداية ظل الإنسان القديم يستعين بما يراه في بيئته للتعبير عن معانيه ومقاصده ؛ فقوله ( فلان كالأسد ) يقصد منه المدح بالشجاعة وهكذا ، لكن التفكير البلاغي القديم عدّ ذلك أسلوبا شعريا وأقام عليه مدرسة البيان الشهيرة ؛ فالقول إن كان يصرح بالمشابهة بين طرفين فهو تشبيه ، ويكون تام الأركان أو بليغا في تفصيلات وأحوال امتلأت بها كتب البلاغة القديمة ، وإن كان القول لا يصرح بهذه المشابهة ويدّعي حلول طرف في آخر فهو استعارة ، كقولك سلمت على أسد ونحوها ، وللاستعارة أيضا أنواع وأحوال ؛ فهناك الاستعارة التصريحية وهناك المكنية ولإجرائها في القول صيغة يحفظها الدارسون ويرددونها منذ القديم وحتى الآن .
وإذا حاولنا العودة إلى منطق هذه القراءة والقبض على التصور الأساس الذي تصدر منه وجدناها تقر أن هذه الأقوال تخييلية أو هو قياس شعري ، فالمتكلم يحاول الجمع بين طرفين لنقل الحكم بينهما ؛ فإذا قال المتكلم : فلان كالأسد فقد نقل حكم الشجاعة من الأسد إلى المقصود بالمدح ، ويجب لإنجاح هذه العملية أن تكون الصفة الجامعة مشهورة في الطرف الأول مدّعاة للطرف الآخر ، فلا يجوز أن نقول : فلان كالأسد ونحن نقصد حجم اللحية مثلا .
لكن هل المتكلم بهذا القول يقصد فعلا الجمع بين عالمين ؟ ونعود لأسئلتنا الأولى ؛ هل الأسد فعلا شجاع ؟ أحسب أن كثيرا منا يدرك بلا عسر أن الأسد المستخدم هنا أسدٌ ( ثقافي ) ليس له وجود في العالم المادي ، أنه أسد ابتكرناه ؛ ليدل على موضع ( Tipc ( متواضع عليه في ثقافتنا وأنظمة تواصلنا ، فهو مجرد علامة على دلالة معينة ، إن المتكلم الذي يقول لك أنت كالأسد لا يقصد أبدا تشبيهك بالأسد الحقيقي وإنما يريد بكل بساطة إنشاء فعل مدح نظير قوله : أنا بقولي هذا أمدحك في شجاعتك . وهو فعل ينتمي إلى صنف البوحيات في نظرية أفعال الكلام العامة . إن هذا القول لا يجمع بين عالمين لأن المشابهة فيه غير متحققة وإنما هو حديث عن عالم واحد ومنطق واحد هو عالم الإنسان ومنطقه وأحكامه ، لقد خزّن الإنسان عقوده المعيارية وسلالمه التفاضلية وأحكامه القيمية في أدراج لغوية ضخمة واختار لها رموز من بيئته نحو الحيوانات وعناصر الطبيعة ، فإذا أراد المدح بقيمة الجمال استخدم الظبي وإذا أراد الذمّ بالغباء استخدم الحمار وإذا أراد دلالة السرعة استخدم الريح ، بل إنه استعان برموز أخرى لم يشاهدها نحو الملائكة و الغول ونحوهما . ودلالاتها لا تشير إليها بقدر ما تشير إلى التصور الذي تعاقدنا عليه في فهمها وتلقيها ، وذلك مثل إذا اتفقت جماعة بشرية في ثقافة معينة على أن القمر هو الغاية في الظرف ، فإنك ولا شك سترى في أقوالهم مثل : أنت ظريف كالقمر ! فقولهم هذا لا يشير إلى ظرف القمر وإنما إلى تصورهم نحو القمر ، والأمر نفسه يقال عن الأسد .
وبقي سؤال لا بد من ظهوره : لماذا اختار العقل الإنساني هذه الطريقة في التعبير ؟ لماذا لا يقول بكل بساطة إذا أراد المدح : أنت شجاع جدا ، بدل : أنت كالأسد ؟ . والجواب على هذا يكون بأمرين ؛ الأول : أن القولين ليسا بمعنى واحد ، فالأول يمدح بالشجاعة أما القول الآخر فيمدح بالغاية القصوى في سلم الشجاعة وهي المرتبة التي لا مثيل لها إلا في ثقافتنا المتواضع عليها . أما الأمر الآخر ، فهو أن العقل الإنساني من طبيعته الإلحاح على المبالغة في إنشاء بوحياته ؛ لأنه ليس بصدد إنشاء أفعال إخبارية يقصد بها مجرد الإخبار ، وإنما يريد التعبير عن شعور معين أو إحساس مخصوص نحو المدح أو الذم أو الأسف.
- د. عادل الغامدي
Adelalig11@gmail.com