القطيعة مع التراث هي أحد منجزات الحداثة الفلسفية والفكرية، والداعي الأكبر لبتر هذه العلاقة هو العلم التجريبي التطبيقي أكثر من العلوم الإنسانية، ولعل هذه الدعوة جاءت من خلفية الهيمنة التي فرضتها المؤسسات الدينية على الهم الفلسفي والفكري لدى الإِنسان، فقوبل التعنت بتعنتٍ مثله أدى إلى فلسفة القطيعة مع التراث. لكن التطور الفكري الذي لا ينفك الإنسان عنه اتجه به نحو نقد فلسفة الحداثة ومركزيتها التي هيمنت على الفكر الإِنساني، واستحدث هذا النقد فلسفات ما بعد الحداثة المبنية على ركيزة (تفكيك المركزيات)، كل المركزيات التي ولدتها فلسفة الحداثة منذ اللوغوس في الفلسفة حتى الليبرالية الجديدة في الحياة السياسية والاجتماعية، فنشأ على إثر فلسفات ما بعد الحداثة صعود (الهامش) و(المبتذل) ليكون في مواجهة ومحاولة إسقاط لـ(المتن) و(المؤسسي) تحت اصطلاح النقد ما بعد الكولونيالي أو (دراسات التابع) التي اشتهر من خلالها إدوارد سعيد كأحد أهم المفكرين الذين أسسوا لهذا المنحى النقدي في مواجهة الاستعمار - الاحتلال - المركز.
وتأتي دراسات وائل حلاق امتدادًا لما قدمه إدوارد سعيد من قبل في هذا الباب، إلا أن وائل حلاق تركزت دراساته وأفكاره حول بعث الشريعة بمفهومها القديم لمواجهة الحداثة - التقنين بمفهومه الحديث؛ مما جعل لدراساته الصدى الأكثر دويًا في الساحة العربية والإسلامية في جانبيه السياسي والاجتماعي، فالسياسي من خلال كتابه (الدولة المستحيلة) والاجتماعي من خلال كتابه (ما هي الشريعة)، فينقض بهذين الكتابين فلسفة الحداثة المتمثلة في الدولة الحديثة - سياسيًا؛ والتقنين - اجتماعيًا. فدراسات وائل حلاق هنا تعيد الهامش - الشريعة الإسلامية إلى المتن، إِذ إنه يعد الشريعة الإسلامية مناقضة لفكرة الدولة الحديثة مما يجعل (الدولة الإسلامية) بالمفهوم الحديث أمرًا مستحيلاً، والبديل في هذا هو (الحكم الإسلامي)، وكذلك فإنه يعد التقنين في المحاكم هو هيمنة حداثية تطمس التعددية والفردانية التي يجتهد القاضي في الشريعة الإسلامية لحفظها ومراعاتها، وبهذا فإن الحكم بالشريعة الإسلامية في القضاء والسياسة سيمنحنا أكثر تعددية وفردانية من الحكم الديموقراطي بمفاهيم الدولة الحديثة.
يعتمد حلاق في فكره حول الشريعة على المنهج التفكيكي الذي يفكك مركزية الحداثة ويعيد للهامش - الشريعة مركزيتها، وهذا النوع من الدراسات والفلسفات الفكرانية تعطي مجالاً للباحث في التفكير خارج هذه المركزية التي نسخت دول الاستعمار وما بعد الاستعمار على شاكلتها، وتمنحنا زلزلة مهمة في الوثوقية بكل الفلسفات التي يبدعها الإِنسان، إِذ إن فهم الإنسان قائم على التطور، فهو مناقض دائمًا ومجدد أيضًا. كما أن هذه المنهجية تُعلي من التراث الإنساني وتتعامل معه كمنجز يمكن الاعتماد عليه، وتعيد إظهار مكامن القوة التي يكتنهها بما يفيد الإنسان في العصر الحاضر، فهذه المنهجية تحقق التعددية بمفهومها الشاسع وليس بمفهومها الحداثي المخلّص، وأيضًا فإنها تقوم على منهجية فلسفية وليست أيديولوجية لأن وائل حلاق لا ينتمي للديانة الإسلامية وإنما ناصر الشريعة الإسلامية من منظور فلسفي وليس من منظور أيديولوجي.
لكن الإشكال في دراسات التابع عمومًا وفي أطروحات وائل حلاق خصوصًا هو محاولة المراوحة بين الهامش والمتن، فتعيد الهامش إلى الصدارة، وهذه المنهجية لا تلغي ولن تلغي هذه الثنائية البتة وإنما تُراوح بينهما، وقد لاحظتُ هذا كثيرًا في الطرح النسوي الذي يريد الانتصار على الذكورة بتحويل الأنثى إلى مهيمنة على الذكر، وهو ظاهر بجلاء في أطروحات حلاق التي يسفّه فيها منجزات الحداثة ويعود بنا إلى التراث والتاريخ كمخلص من هذا العناء السياسي - الدولة القومية والعناء الاجتماعي - التقنين، فهي إعادة للمتن بكل قواه السياسية والاجتماعية كما كانت هيمنته في التاريخ.
- صالح بن سالم
_ssaleh_ @