ألّف أبو منصور الثعالبي كتابه ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، وذكر في مقدمته أن «بناء هذا الكتاب على ذكر أشياء مضافة ومنسوبة إلى أشياء مختلفة يُتمثَّل بها، ويكثر في النثر والنظم وعلى ألسنة الخاصة والعامة استعمالها»، أي أن مضمون الكتاب سيكون أمثالاً سائرة. وفي ديوان الأدب قال الفارابي عن المثل: «والمثل ما تراضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه حتى ابتذلوه فيما بينهم».
وحين قلّبتُ الكتاب وجدتُ أن الثعالبي يذكر في بعض ما يورد أنها أمثال، ويعزو إلى مصادر الأمثال التي ذكرتها، أو الأدباء الذين ذكروا أنها أمثال، كقوله: «أسلحة الإبل: من أمثال العرب عن أبي عمروٍ والأصمعي قولهم: أخذَتِ الإبلُ أسلحتها وتترّسَتْ بتروسها»، وقد وجدت هذا المثل مدوّناً في مجمع الأمثال للميداني.
وربما أورد الثعالبي ما تواضع على استعماله طائفة من الأدباء في شعرهم أو نثرهم، على غرار: أصابع الأيتام؛ إذ أورد: «قال بعض السلف: احذروا أصابع الأيتام، يعني رفعهم إياها في الدعاء على الظالم، وهذا كما قيل: احذروا مجانيق الضعفاء، أي دعواتهم.
وفي أصابع الأيتام قال أبو فراس:
أبذلُ الحقَّ للخصومِ إذا ما
عجزَتْ عنه قدرةُ الحكامِ
رُبَّ أمرٍ عففتُ عنه اختياراً
حذراً من أصابعِ الأيتامِ»
ولكن توارد هذه الكناية في الأدب القديم لا يجعلها مثلاً، فهي مثل تشبيههم الكريم بالسحاب، والشجاع بالأسد، وهلم جرّاً.
إلا أن ما لفت انتباهي في الكتاب أن الثعالبي يورد بعض التشبيهات، أو الكنايات، أو الاستعارات التي استعملها شاعر واحد فحسب، يوردها على أنها مثَل، وهي في الحقيقة ليست بمثَل، ولم تسِر مثلاً كما سارت بعض الأمثال الصادرة عن بيوت الشعر التي جمع كثيراً منها أبو عبدالله الأصبهاني في كتابه «الأمثال الصادرة عن بيوت الشعر»، ومما أورده الثعالبي من هذا القبيل «عين بشار»؛ إذ قال: «كان بشار بن بردٍ من عجائب الدنيا، وذلك أنه كان أعمى أكمه، لم يبصر شيئاً قط، ...، وفي عين بشار يقول مخلد بن علي السلامي، وهو يهجو إبراهيم ابن المدبر ويدعو عليه:
رأيتك لا تحب الود إلا
إذا ما كان من عصبٍ وجلد
أراني الله عزك في انحناءٍ
وعينك عين بشار بن برد»
وأورد الثعالبي أيضاً «منديل عبدة»، ثم نقل ما نصه: «قال عبد الملك بن مروان يوماً لجلسائه وكان يتجنب غير الأدباء: أي المناديل أفضل؟ فقال قائل منهم: مناديل اليمن، كأنها أنوار الربيع. وقال آخر: مناديل مصر، كأنها غرقئ البيض، فقال عبد الملك: ما صنعتم شيئاً، أفضل المناديل منديل عبدة يعني عبدة بن الطبيب في قوله من قصيدةٍ:
لما نزلنا نصبنا ظِلَّ أخبيةٍ
وفارَ للقومِ باللحمِ المراجيلُ
ورد وأحمر ما يونيه طابخُه
ما غيّر الغليُ منه فهو مأكولُ
ثمّت قمنا إلى جردٍ مسومةٍ
أعرافُهن لأيدينا مناديلُ
والأصل في هذا المعنى قول امرئ القيس:
نمشّ بأعرافِ الجيادِ أكفَّنا
إذا نحن قُمنا عن شواءٍ مضهَّبِ»
فإنه صوّر للقارئ أن عين بشار ومنديل عبدة عبارتان سارتا مسير الأمثال، وبحسب ما راجعت من مصادر الأدب فإنهما ليستا كذلك، ولقد حاولت جهدي أن أجد من استعملها غيره، فلم أجد أحداً ذكَر عين بشار سوى مخلد بن علي السلامي، ولم يذكر منديل عبدة سوى عبدالملك بن مروان، ولو ذكر العبارتين غيرهما واحد أو اثنان لما ساغ أن ندرج العبارتين ضمن الأمثال. وبناء على ما تقدم فإن كثيراً مما أورده الثعالبي لا يندرج ضمن جنس المثل أو الحكمة، ولعل هذا ناتج من أن كثيراً من كتب الثعالبي أقرب إلى الإمتاع من العلم والتصنيف الدقيق لهذا الجنس الأدبي في هذا الكتاب خاصة؛ ولهذا فليس غريباً أن نجده يضخّم كتابه بحشد كثير من العبارات على أنها جارية مجرى الأمثال، وأنها -كما عبّر- «يكثر في النثر والنظم وعلى ألسنة الخاصة والعامة استعمالها».
ولكن هذه الظاهرة في كتابه تقفنا على ملمح مهم من أطوار نشوء المثل، وذلك أنْ تصبح العبارة متداولةً بين الأدباء ولو تداولاً مختلفاً في الصياغة، ومن ذلك أنه ذكر «لسان حسان»، ثم قال: «يضرب به المثل في الذلاقة والطول والحدة»، وبالبحث في بعض الكتب الأدبية لم أجد أن «لسان حسان» مَثَلٌ متداوَل، ولكني وجدت الـمقّري التلمساني قال في نفح الطيب ما نصه: «ويشهد له بالإحسان لسان حسان؛ ويحكم له ببرى القوس حبيب بن أوس»، وقال كذلك في أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض: «لو أنَّ للأيام ألسنا ناطقة وأوصافا متناسقة تردد فنون بيانها كالطير ترجع على أفنانها ما جرت إلى إنصافه ولا درت بعض أوصافه ولو أني أمددت ببيان سحبان وأيدت تأييد لسان حسان...».
وهذا ما يوحي بأن مصادر الأدب ليس مهمتها أن توثق لنا ما هو شفوي فحسب من الأجناس الأدبية، بل أظن أن لها أثراً في نشوء جنس المثل على وجه الخصوص، فقد ذكر الثعالبي العبارة ثم أورد القصة التي وردت فيه. والقصةُ التي جاء فيها ذكر للسان حسان تناقلها كثير من مصادر التراث الأدبي بصفتها خبراً يدل على قوة شعر حسان، لا بوصفها خبراً يتضمن مثلاً.
وحين يورد الثعالبي -مثلاً- عبارة «لسان حسان» على أنها مثلٌ، ويذكر القصة التي أخذ منها العبارة فكأنه يهيّئ العبارة لتصبح مثلاً سائراً، ويهيئ القارئ لتقبّل هذه العبارة مثلاً من الأمثال السائرة.
- د. سعود بن سليمان اليوسف