د. شاكر بن أحمد الصالح
لا نبالغ لو ذكرنا بأن من احسّ وأدق وأشهر القضايا التي مابرحت عالقة في أذهان الكثيرين هي قضية قيادة المرأة السعودية للسيارة. وتكمن حساسية تلك القضية في أن مناقشيها ليسوا فقط من داخل المملكة، بحكم أن هذا الموضوع خاصاً بالمرأة السعودية وما يتداخل معها من أمور اجتماعية وثقافية، بل إن أصواتاً أجنبية هنا وهناك تناقش هذا الموضوع وكأنه من ضمن أولوياتهم وأجندتهم.
لقد تشرف صاحب المقال بخدمة بلده موفداً للدراسة ثم للعمل بالخارج، وقد بقيت لمدة قاربت الاثني عشر عاماً. وأذكر أنه في أول أسبوع لزوجتي في أمريكا أحضرت لها مدربة تعلمها قيادة السيارة، وذلك حتى تُعين نفسها، وتشتري أغراضها دون الاعتماد علي. وقد هابت الأمر في بدايته خاصة عندما قامت بقطع الإشارة، مع أن المدربة كانت بجانبها. وقد عرفنا بقطع الإشارة من خلال المدربة التي وصلها عبر البريد صورة السيارة والمكان وكذلك الوقت بالدقيقة والثانية، وكان ذلك في عام 1999م. وفي خلال ثلاثة أسابيع، أجادت فيها زوجتي القيادة وأخرجت رخصة القيادة، والتي لا زالت تحتفظ بها إلى اليوم، وذلك بسبب أنه أمر غير طبيعي لامرأة سعودية أن تقوم به. وقد قادت السيارة لثماني سنوات لم تتعرض فيها - ولله الحمد - لحادث، او حتى مخالفة مرورية.
وعندما رجعت لأرض الوطن، دُعيت زوجتي لحفلة عشاء على شرف مجموعة من زوجات بعض الطلاب والموظفين واللاتي صحبنها في تلك الفترة وكنَ قرابة العشرين امرأة. وقد طلبت منها أن تسألهن سؤالاً واحداً وهو: إذا فُتح المجال للمرأة بأن تقود سيارتها، فمن منهن سوف تُقدم على تلك الخطوة؟ وكنت بسؤالي ذلك أرغب في أخذ عينة دراسية من نساء جربن وقدن سياراتهن بأنفسهن في مجتمع متقدم يُطبق النظام بحذافيره. أما عن الإجابة فكانت خلاف ما توقعت: لا يوجد امرأة واحدة ممن كنَ في ذلك الاجتماع، على الرغم من أنهن كنا يقدن سياراتهن، تريد أن تقود السيارة فيما لو فُتح المجال للمرأة بأن تقود السيارة في المملكة. أما عن الأسباب لرفضهن قيادتهن للسيارة في المملكة فقد تراوحت بين أسباب إدارية ونظامية وهي سبب كتابة هذا المقال.
أتفهم جيداً مطالبة البعض للمرأة بأن تقود سيارتها معللين ذلك بأن ملايين الريالات تُحول سنوياً من قبل السائقين لبلدانهم، ولو قادت المرأة سيارتها فإننا سوف نُبقي تلك الأموال في بلدنا، وسنقوم بتسريح هؤلاء السائقين، وبالتالي نُسهم في تعزيز قوة اقتصادنا المحلي. كما أن مطالبين آخرين قد يُعوزون رغبتهم بقيادة المرأة للسيارة إلى التقليل من الحوادث التي يتسبب فيها هؤلاء السائقين يومياً. وأصواتاً أخرى تطالب بأنه قد حان الوقت لأن تستقل المرأة وتقوم بمساعدة زوجها في جميع مناحي الحياة ومنها توصيل وإحضار أبنائها من المدارس خاصة مع ارتباط الزوج بدوامه، ولكي لا يؤثر على إنتاجيته في عمله. ومهما تعددت وتنوعت أصوات ومطالبات تلك الفئة فلا تلبث أن تكون أصواتاً نظرت إلى الجزء الفارغ من الكأس وتناست أو تجاهلت الجزء الممتلئ من الكأس.
لست هنا بصدد مناقشة تلك القضية من وجهة نظر شرعية، خاصة مع تباين آراء علمائنا في هذه القضية. فحين ذكر سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - أنه لا يجوز للمرأة أن تقود سيارتها لما في ذلك من كشف لوجهها أو بعضه، وكشف شيء من ذراعيها، ولاختلاطها بالرجال (مجلة البحوث الإسلامية رقم 30 من الصفحة 296). ذكر سماحة الشيخ صالح الفوزان - يحفظه الله - أن قيادة المرأة للسيارة لا تجوز كذلك لأنها تحتاج إلى مخالطة الرجال فيما لو تعطلت سيارتها أثناء السير أو حصل عليها حادث أو مخالفة مرورية، ولأن قيادتها للسيارة تمكنها من الذهاب إلى مكان بعيد عن بيتها وعن الرقيب عليها من محارمها. في حين ذكر سماحة الشيخ عبدالله المطلق - يحفظه الله - في جريدة عكاظ بتاريخ 4 يونيو 2009م أنه لا يوجد أي مبرر شرعي يمنع النساء من قيادة سياراتهن. كما أن مداخلة للشيخ عايض القرني - سلمه الله - مع قناة العربية يوم الأثنين 31 - 5 - 2011م ذكر بأنه لا يوجد نص يُحرم قيادة المرأة للسيارة. فمثل هذا الاختلاف بين علمائنا يؤجج ويؤلب الرأي العام تجاه هذه القضية الحساسة. ونرى أن يُحسم الحكم الشرعي في تلك القضية صراحة من قبل الهيئة العامة للإفتاء والدعوة والإرشاد وأن لا يُسمح لغير تلك الهيئة أن تجتهد في فتوى تناقض فتواهم كما نص على ذلك الأمر السامي الكريم.
ولسنا، كذلك، نناقش تلك القضية من وجهة نظر مجتمعية وثقافية، والذي لم ولن يتقبل بأن تتجاوز المرأة العرف والعادات والتقاليد ويُسمح لها بقيادتها للسيارة. على أن تقبل المجتمع قد يكون نسبياً، فبعض المجتمعات تتقبل للنساء أن يقدن سياراتهن بأنفسهن، كم أن هناك مجتمعات لا يمكن أن تتقبل المرأة بأن تقود سياراتها بنفسها. وتقبل المحتمع، كذلك قد يكون وقتياً، فعلى سبيل المثال، لم تتقبل بعض المجتمعات الأمر الملكي بفتح مدارس للبنات في عهد الملك سعود - يرحمه الله - والذي أصدره في يوم الجمعة 21 - 4 - 1379هـ (1960م)، بينما نشاهد الآن نجاح المرأة السعودية قد فاق جميع التوقعات علمياً وثقافياً واجتماعياً.
إن مناقشتي لهذا الموضوع الحيوي والحساس والهام، ينبع من وجهة نظر إدارية ونظامية، وكذلك من جهة أنها مشكلة عامة تواجه المجتمع المحلي بأسره، وبالتالي فهي مشكلة سياسة عامة ((Public Policy issue يتحدث فيها المثقف مع الجاهل، والرجل مع المرأة، والصغير مع الكبير. تلك المشكلة تطرق لها العديد من المهتمين، وغير المهتمين، من داخل المملكة ومن خارجها كذلك، وتم تأييدها من البعض، ورفضها من البعض الآخر. ونحن هنا لا نؤيدها ولا نرفضها، بل نناقشها لمعرفة وتبيان عمُا إذا كنا مستعدين لتطبيق تلك القضية على مجتمعنا السعودي المحافظ أم أن الوقت ما زال مبكراً لأن ترى هذه القضية النور التي تنشده. ولمناقشة تلك القضية يجدر بنا أن نسأل أنفسنا عدة اسئلة: هل يوجد لدينا البنية التحتية الخصبة التي تسمح للمرأة بقيادة السيارة؟ هل يمكن للمرأة أن تتكيف مع نظام الطريق المعمول به حالاً؟ وهل تم إعداد نظام صارم امنياً وأخلاقياً يسمح للمرأة بقيادة آمنة للسيارة؟
تعتبر البنية التحتية لوسائل النقل، من وجهة نظر صانع السياسة العامة، من أهم القضايا الرئيسة الوطنية والدولية. وتكمن أهميتها في أن المستفيدين من النقل العام هم المواطنين والمقيمون على مختلف مشاربهم ومآربهم، ولأن لها فوائد ومزايا للتنمية الإجتماعية والإقتصادية والثقافية للبلد. ومن الملاحظ على طرق المملكة السريعة التي تربط بين المدن بعضها ببعض، والطرق السريعة داخل المدن، وشوارع الأحياء الفرعية، أنها لم تشهد أي تطور يُذكر، وكل ما نشاهده هو التوسع في إنشاء ورصف الطرق الفرعية للأحياء وإعادة تأهيل الطرق السريعة بين المدن وداخلها، من دون أن يُصاحب ذلك تطوراً في البنية التحتية لتلك الطرق.
تلك الطرق، في مجملها، تفتقر لنواحي السلامة والإشارات المرورية الواضحة المطبقة بكل صرامة. كما أن الطرق بمجملها مهترئة، وتعاني من عدم صيانتها بإستمرار خاصة في ضل اجوائنا المتقلبة التي تعاني من شدة الحرارة والغبار وقلة الأمطار. ولا يمكن ان نقارن البنية التحتية لطرق المملكة بالبلدان المتقدمة كأمريكا وكندا والمانيا واليابان، على سبيل المثال. على أنه ينبغي الإشادة، في هذا الخصوص، بالطريقة التي تتبعها أمانة مدينة الرياض في تأهيلها لبعض الطرق الفرعية داخل الأحياء وذلك بالرصف الحديث للطرق ووضع موقف لكل سيارة في الطرق التي تقوم بتأهيلها. فمثل هذه الطريقة يُجبر سائق السيارة أن يركن سيارته في الموقف الذي أُعد لذلك. على أن هذا الإجراء يجب أن يتبعه مخالفة كل من يُخالف النظام عند إيقاف السيارة في غير مكانها المخصص لذلك. ونظراً لضعف البنية التحتية لطرقنا فإن قيادة المرأة لسيارتها أصبح صعباً بل مستحيلاً، ومالم نبادر في تهيئة الطرق بالشكل الذي نضمن معه قيادة آمنة للجميع، فإنه يتعذر مناقشة قيادة المرأة لسيارتها.
أما بالنسبة لنظام الطريق المعمول به حالياً فإنه على الرغم من وجود ذلك النظام ورقياً، إلا أن عدم تطبيقه عملياً أدى لأن يقوم السائق، وبكل سهولة وعدم اكتراث بالنظام، على قطع الإشارة المرورية، إلا في حالات قليلة مثل حالات بعض التقاطعات التي تتواجد فيها كاميرات ساهر. كذلك اعتادت العين على مشاهدة السرعة الجنونية على جميع الطرق سواء كان ذلك داخل أو بين المدن، وأصبح تغيير المسار من دون إشارة أمراً عادياً لا يُعاقب عليه النظام، ونشاهد السائق يعكس الطريق بكل أريحية وعدم خشية من نظام يمنعه من ذلك، والوقوف الخاطئ أمراً طبيعياً بل إن غير الطبيعي أن يوقف السائق سيارته في الموقع المخصص، هذا إن وجد موقف مخصص للسيارة.
وفي مناقشتنا لنظام الطريق المعمول به، فإنه يجدر بنا الإشارة إلى دراسة أعدتها العديد من الجهات، مثل البنك الدولي، ومنظمة اليونيسيف، والهيئة العامة للإحصاء والمعلومات، والتي تشير إلى أن نسبة الرجل إلى المرأة في السعودية هي 50.6% إلى 49.4%، وهذا يعني أن نسبة المرأة إلى الرجل تكاد تكون متقاربة، أي أن البيت الذي يوجد به الآن سيارة أو سيارتين، سوف يكون بحاجة إلى زيادة السيارات لاثنتين وأربع. أي أنه سوف يزيد ضخ السيارات الموجودة في الطرقات إلى الضعف، بالشكل الذي لا يمكن أن تستوعبه خاصة وأن الجميع يعاني من الزحام المروري حيث إن تلك الطرقات قد وصلت إلى ذروة الاستيعاب الكامل لطاقتها. ولذا أصبحنا نتساءل وبشدة: كيف ستقود المرأة سيارتها في خضم تلك الأمواج المتلاطم بعضها ببعض؟
اما بالنسبة لإعداد نظام أمني وأخلاقي فهو أمر حتمي ولازم، ولا يمكن للمرأة أن تقود سيارتها بدون هذا النظام الذي يسمح لها بأن تقود سيارتها بأريحية تامة، لا يُعكر صفوها طائش أو مراهق. إن غياب هذا النظام جعل من المرأة التي تمارس رياضة المشي أن تكون عُرضة لقلة حياء فئة من الشباب، ندعو الله أن تكون فئة قليلة ابتلى بهم مجتمعنا. فئة تمادوا في تصرفاتهم تجاه أخوات لهم بسبب غياب هذا النظام الأمني والأخلاقي. ولعلنا نتساءل في هذا المقام سؤالاً عفوياً بسيطاً: إذا لم تُحترم خصوصية المرأة وهي تمارس رياضة المشي في هذا المكان العام، فكيف ستُحترم وهي تقود سيارتها وقد تتعرض للخراب أو العطل في مكان لا يوجد به خصوصية؟
وفي ختام هذا المقال الذي قصدنا به تبيان عمّا إذا كان بمقدور المرأة السعودية أن تقود سيارتها من وجهة نظر إدارية ونظامية، تبين لنا أننا غير مستعدين من ناحية البنية التحتية للطرق، وعدم وجود نظام طريق يساعد المرأة على القيادة بكل أريحية، وكذلك عدم تطبيق النظام الأمني والأخلاقي الذي يردع الشباب من القيام بأعمال غير أخلاقية تجاه المرأة. ونعتقد أن الثلاثة أمور السابقة من الأهمية بمكان توفرها قبل التفكير بالسماح بقيادة المرأة للسيارة. تلك الأمور لا تقل بأي حال من الأحوال عن رأي الشارع الحكيم في تلك القضية المجتمعية الحساسة، ويراه ولي الأمر فالرأي الأتم ما يقوله علماؤنا ويوافق عليه ولاة الأمر، والذين لن يقدموا على خطوة إلا إذا كانت في صالح المجتمع وصلاح أهله. وحتى ذلك الحين، ندعو الله أن يمن بالعافية والصلاح والستر على المرأة السعودية، التي يهمنا أمرها لأنها أمنا وأختنا وبنتنا وزوجتنا.
والله ولي التوفيق،،،