يمثل التراث الحضاري في المملكة ميزة نسبية وتنافسية قادرة على صناعة سياحة نوعية مختلفة وتجربة فريدة على مستوى العالم، يعزز ذلك المقومات الأثرية والعمرانية والثقافية والحرفية التي تمنح تراث المملكة بُعداً آخر يرتبط بالهوية الوطنية للسعودية كوجهة للمسلمين ومهداً للحضارات الإنسانية. إلا أن استثمار هذا التراث الحضاري وتوظيفه في بناء منظومة سياحية متكاملة يتطلب أن نتعامل معه على أنه محرك تنموي واقتصادي يؤثر إيجاباً في مستوى جودة الحياة لسكان المدن والقرى السعودية، ويساهم في رفع مستوى الخدمات والبنية التحتية والمرافق العامة، ويلبي الاحتياجات الأساسية للإنسان السعودي.
ثمة ايمان مطلق داخل أروقة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بأن السياحة «صناعة» وليست «قطاع»، مما يجعل من الهيئة متغيراً ثابتاً في مشهد إدارة التنمية بمختلف قطاعاتها، وهذا ما يفسر أيضاً تبنيها للعمل بمنهجية الشراكة منذ تأسيسها، مما ساهم في إيجاد ثقافة جديدة في عمل المؤسسات الحكومية لتكون أكثر انفتاحاً على الآخر، يبرهن ذلك قرارها منذ اليوم الأول أن تكون مؤسسة متكاملة مع مهام ومسئوليات الآخرين، إيمانا منها أن السياحة «تنمية مسؤولة» و»مستقبل وطن»، وبقناعة مبكرة انه لا مستقبل للتنمية السياحية وما يرتبط بها من تنمية قطاعية دون «عمل مشترك» بين المؤسسات الحكومية.
العمل المضن والجهود الحثيثة التي بذلتها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في تفعيل تلك «الشراكة» ونقلها على أرض الواقع كبرامج ومشروعات، والإنجازات التي تحققت على مستوى العمل مع الشركاء، يقودنا إلى تساؤلات مهمة حول ما إذا كانت هذه الشراكة تحولت بالفعل إلى عمل مؤسسي داخل تلك المؤسسات الشريكة أم أنها باتت «كامنة» وتظهر عند مستوى معين من ظرفية الحدث والزمان والمكان؟، وهل هذه المؤسسات باتت «تعي» تماما مسئولياتها تجاه الإيفاء بمتطلبات هذه الشراكة مع الهيئة؟ وكيف يمكن أن نقيم هذه التجربة النوعية في العلاقة بين مؤسسات الدولة؟
على سبيل المثال فإن أي تجربة سياحية داخل المملكة مكونة من عناصر رئيسة تتضمن جودة وملائمة الخدمات والمرافق والبنى التحتية والأنظمة والإجراءات بداء من مغادرة السائح لمنزله وانتهاء بعودته إليه، وبنظرة تحليلية سريعة سنجد أن المهام المرتبطة بمسار هذه التجربة والمناطة مباشرة بالهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني «وفق النظام» لن تتجاوز فعلياً ما نسبته 10% ، بينما النسبة المتبقية هي مسئولية القطاعات الأخرى، ورغم ذلك نجد الهيئة هي من يبادر ويتصدى للنقد أمام الرأي العام بكل شجاعة ومهنية ، وتحمل مسئولية تقييم مستوى تلك التجربة السياحية وعناصرها.
الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني كان بإمكانها أن تبقى «كامنة» هي الأخرى في دائرة المسئوليات المناطة بها «نظاماً»، وتكتفي بالعمل على تطوير ما يخصها من منتج، وإلقاء المسئولية على القطاعات الحكومية التي تمثل منتجاتها المكون الرئيس للسياحة دون الذهاب إلى أبعد من ذلك أو خوض معركة تحد وسط بيئة إدارية معقدة وغير مرنة - رغم أنها الجهاز الحكومي الأقل إمكانات ومقدرات - لكن ثقافة العمل المحترفة التي أسست عليها الهيئة جعلت منها مؤسسة «مبادرة» و»مبتكرة» و»محفزة»، بل وأكثر «جرأة» على تحمل مسئولية منتجات الآخرين أمام المجتمع المحلي بدافع من أخلاقيات العمل المشترك، في نفس الوقت الذي نجد فيه كثير من القطاعات غير مكترثة بمسئولياتها واختصاصاتها تجاه صناعة السياحة والتي هي جزء لا يتجزأ من منظومة التنمية والاقتصاد الوطني، وهذا ما يدفع بنا للتساؤل مرة أخرى، هل التزم شركاء الهيئة بمسئولياتهم تجاه الشراكة معها؟
م. بدر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن