يُحكى أن تجارة البطاطس في القرن الثامن عشر كانت كاسدة؛ إذ ربط الفرنسيون البطاطس بمرض الجذام, واعتبرها الروس سمًّا زعافًا, أما الألمان فاتخذوا منها طعامًا لمواشيهم.
ولما أرادت إمبراطورة روسيا تغيير المفهوم السلبي عن البطاطس أصدرت أوامرها بإحاطة حقول البطاطس بأسوار شاهقة, وأمرت بوضع لافتات كبيرة في الأرياف تحذِّر من سرقة البطاطس.
بعد هذه الخدعة النفسية صارت البطاطس صعبة المنال؛ فعمل مبدأ النّدرة عمله؛ فارتفعت قيمتها عند النّاس.. فكيف حدث هذا؟
بدا الأمر لعقليّة الفلاح الرّوسي فيه شيء من الاحتكار والظلم؛ فصار ينظر للأمر على أنّ الأغنياء يحتفظون لأنفسهم بأفضل الطعام, وبدأ منطلقًا من هذا الشعور بالمظلومية يبحث عن حقه في البطاطس, مقتنعًا بأنها ذات قيمة, وأنّ الفلاح يحتاج لها كما يحتاج لها الغني تمامًا.
ومن هنا راجت تجارة هذا المحصول حتى صار جزءًا من موائد كبار المطاعم العالمية اليوم.
مبدأ الندرة هو المحرك الخامس للإقناع كما يقول (هاري ميلز), وهو المبدأ الذي يُروِّج من خلاله التّجار الآن لبضائعهم على اختلافها.
فالبعض تأسره جملة الباعة المزيفة المكرورة: «لا يوجد في الشرق الأوسط إلا هذه القطعة.. أنت الشخص الثاني الذي سيرتدي هذه الساعة أو هذا العقد.. ستكون أنت الشخص الثالث بعد ملك كذا وإمبراطور كذا», ويأتيك بأسماء خيالية، لا تدري من أي رقاع التاريخ العتيق جاء بها.
كثيرون مِنّا يسهل خداعهم, وكثيرون منّا أيضًا يظنون أنهم غير مخدوعين مع أنهم أول (الملعوب عليهم)!
وقد كانت العرب تفطن لهذا الأمر جيّدًا؛ لذا قالت: «من مأمنه يؤتى الحذر»، أي: إن الخطر قد يأتي من حيث أمن الإنسان منه؛ فهو يحتاط لكنه ربما يُفاجأ بالخطر آتيًا من مكمنه.
من هنا تنبت الأدلجة!
هذه التّهمة التي أثبتت حضورًا لها لا نظير له في الصحافة العربية عامة, والمحلية خاصة. إنها المادة الدسمة في الصحافة ومواقع التواصل. يتراشق بها المتخالفون, ويقذفون بها في مرامي بعضهم, وفي النهاية كلهم مؤدلج, ولكن بطريقته, وفق دينه, ومذهبه, ورغباته, ومن يتبع.
لا أحد مستقل في هذا العالم، وإن زعم!
وإذا سلمنا له بالاستقلالية فلن يكون مختلفًا عن غيره إلا بكونه أخذ من كلّ بستان زهرة, فتأدلج بأفكار عدة بدلاً من أن يحشر نفسه في وعاء فكرة واحدة؛ فصار مؤدلجًا أكثر تطورًا, وأصبح نسخة متعددة الخيارات.
هذه الحقيقة التي علينا أن نُسلّم لها دون تحسس, وتثيقف, وادّعاء.
فالأدلجة في أبسط معانيها تعني: علم الأفكار.
ما هي إلا أفكارنا, ومعتقداتنا التي نؤمن بها، وننظر من خلالها للحياة والناس.
إنّ الأفكار التي تُشكِّلنا لن تنبت دون أرض خصبة، تتيح لها النمو, وقيمنا لن يشتد عودها ما لم تُسقَ بمجموعة المعارف التي اكتسبناها منذ الصِّغر.
هي ببساطة تتمثل في: قُلْ لي ما تقرأ أقل لك من أنت.. قُلْ لي من تتبع أقل لك من أنت.. قُلْ لي ما هي قدرتك على المقاومة للأفكار الجديدة لأقل لك من أنت..
كلنا مؤدلجون يا رفاق، شئنا أم أبينا. كلنا مؤدلج بطريقته, ووفق أسلوب حياته.
هذه الكلمة (الأدلجة) لا تتطلب كل هذا التحسس المحاطة به مؤخرًا.
لنتصالح مع ضعفنا البشري, وقدرة الغير على التأثير فينا, وزرع أفكاره بنا خيرًا وشرًا؛ حتى تنام هذه اللفظة قريرة العين في معجمها؛ فقد سئمت من كثرة التراشق, ووقفت في المنتصف تهز رأسها وتحوقل طالبة من الله العتق.
- د. زكيّة بنت محمّد العتيبي
zakyah11@gmail.com