نشأت نظرية التلقي لتتيح للقارئ مجالاً رحباً للمشاركة في تأويل النص، ولا تجعله يكتفي بمجرد الدلالات الظاهرة، بل تلحّ على أن تعطيه الفرصة الأكبر للتفاعل مع النص، وتكون مهمته بالدرجة الأولى تأويليةً، وهذا يعني أن دلالات الشعر تحتمل أكثر من معنى لكنْ بعدد محدود، وليس بما يذهب إليه بعض المبالغين الذين يرون أن المعنى يتعدد بتعدد القراءات!
وفي تراثنا الأدبي الغزير العميق إشارات إلى ذلك، فقد ذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الأضداد مبحثاً سمّاه: وممَّا يفسَّر من الشِّعْر تفسيرين متضادّين، ثم ذكر المثال على ذلك، وهو قول الجعديّ:
إنّك أنت المحزون في أثر
الحيّ فإنْ تَنْوِ نِيَّهمْ تُقِمِ
ثم قال: أخبرنا أبو العبّاس قال: حدّثنا بعض أصحابنا أنّ رجلاً جاء بكرّاسة إلى كيسان، فقال له كيسان: ما في كرّاستك هذه؟ قال: شعر النّابغة الجعديّ، قرأتُه على الأصمعيّ، فقال له: فما حفظت من تفسيره؟ قال: حفظت عنه أنه قال: فإن تَنْوِ نِيَّهمْ تُقِمِ، معناه تُقِم صدور الإبل وتلحق بأهلك؛ فقال كيسان: كذب الأصمعي؛ لم يُرد النابغةُ هذا، وقد سمع الجواب من أبي عمرو ولكنه نسيه، وإنما أراد: فإن تنوِ ما نووا من البعد والقطيعة تُقِم ولا تتبعهم حتّى يوافق فعلُهم فعلَك، وما تنوي ما ينوون.
إن قول الأنباري: ومما يفسر تفسيرين متضادين، يجلّي لنا انفتاح ذهن الأنباري على تعدد التأويل؛ ولهذا عبّر بأن هذا البيت يفسر تفسيرين متضادين؛ إيماناً منه بقبول فكرة تعدد الدلالات.
وكذلك كان تلقّي المفضل الضبي منفتحاً على اختلاف التأويل، ففي لسان العرب: قال ابن الأعرابي: قلت للمفضل: ما تقول في هذا البيت؟ يعني بيت النابغة الجعدي، قال: فيه معنيان: أحدهما يقول قد نَوَوْا فِراقَك فإنْ تَنْوِ كما نَوَوْا تُقِمْ فلا تطلبهم، والثاني قد نَوَوا السفر فإن تَنْوِ كما نَوَوْا تُقِمْ صدورَ الإبل في طلبهم.
وتعتمد نظرية التلقي على أفق توقع القارئ، وهو أفق يُبنى على أمور عدة، منها: الخبرة السابقة التي يملكها الجمهور القارئ عن النوع الأدبي الذي ينتمي إليه النص المقروء، والتشكيلات الموضوعية التي يفترض النص معرفته؛ ولعل عبارة كيسان حين قطع بأن الدلالة هي (فإن تنوِ ما نووا من البعد والقطيعة تُقِم ولا تتبعهم حتّى يوافق فعلُهم فعلَك، وما تنوي ما ينوون)، وتخطئته لتأويل الأصمعي قد بناها على معرفته بمناسبة القصيدة، أو اعتماده على تفسير أبي عمرو - كما ذكر -. أما تأويل الأصمعي فهو تأويل معتمد على أن البيت يحتمل هذه الدلالة، كما أن تأويل أبي عمرو يتكّئ كذلك على احتمال البيت لهذا التأويل، وأيّاً كان مراد النابغة الجعدي قائل البيت؛ فإننا نلحظ أن المشاعر هنا قد اختطفت التأويل، وجعل المتلقي تفسيرَه للبيت منحازاً إلى حالته الشعورية، فبدا لنا الأصمعي واقعاً تحت سطوة مشاعره التي تفترض في العاشق ألا يتسامى على أحبابه مهما نأوا. أما أبو عمرو بن العلاء فلعله مدفوع بشعور الكبرياء، فلأن أحبابه غادروا وتركوه فهو يقابل هجرانهم بهجران، وصدّهم بصدّ.
ليست هذه المقالة محاولة لتأصيل نظرية التلقي أو بحث عن جذورها في النقد الأدبي العربي القديم، بقدر ما هي استطراف لهذين التأويلين المتضادين الناجمين عن الإحساس بالشوق إلى الأحباب، والاستسلام له، أو التسامي على الأشواق، والاحتفاظ بالكبرياء. أما تراثنا ففيه من الثراء ما يفوق جهود الباحثين.
- سعود بن سليمان اليوسف