في أسبوع واحد اختلط التفاؤل بالتشاؤم كما لم يحدث هذا الاختلاط من قبل. في البداية واستئناسًا، على ما يجوز الافتراض، بالدعوة التي تلقَّاها من السفير علي عواض عسيري الذي لا تتوقف التطمينات والتشاورات بينهما ولا تُطوى تلبية الدعوة التي تلقََّّاها لزيارة المملكة، عزَمَ الرئيس نبيه برّي وتوكَّل وأطلق فيما تجربة الانتخابات البلدية تتم، وكأنما هي تُجرى في بريطانيا من حيث الرقي والهدوء وانتخاب الأصلح مشكورة همة الوزير المقدام الاستاذ نهاد المشنوق، مبادرة الاستنهاض المتمثلة بإجراء الانتخابات النيابية قبل الانتخابات الرئاسية مع التعهد بإنجاز الاستحقاق الرئاسي في أول يوم بعد انتخاب هيئة المجلس. مبادرة تنطلق من اقتناع الرئيس برّي بأن الاستمرار في إحصاء عدد أيام فراغ القصر الجمهوري من سيده فيما قصر الرئاسة الثانية وعرين الرئاسة الثالثة يعيشان تخمة اللقاءات والنشاطات والاجتماعات، أمر لم يعد لائقًا بالنسبة إلى قطب مثل الرئيس برّي لن يكتمل رونق تاريخه السياسي إلا في حال تساوت مكانة رجل الطائفة مع وضعية رجل الدولة ودوره الذي لم يكتمل حتى إشعار آخر.

ردّ الفعل الشعبي على المبادرة كان حيوية ملحوظة في النشاط الانتخابي البلدي والمختاري ذلك أن النّاس رأوا فيما طرحه أبو مصطفى بصيص انفراجًا حقيقيًا في أزمة أتعبت الصدور والجيوب وجعلت مشاعر الإحباط تزداد إتساعًا. بعد المبادرة الاستنهاضية جاءت المبادرة الترويضية من جانب السفير علي عواض عسيري. مبادرة تُعزّز روحية مبادرة. وكلا المبادرتيْن تنطلقان من أن العلاج ممكن في حال تقديم الأهم على المهم. والأهم هنا هو أن يتوقف إحصاء عدد أيام خلو منصب رئاسة الجمهورية، خصوصًا أنه بات مثل العدَّاد في سيّارة الأجرة وهذا أمر خارج أصول العمل السياسي..

الذين التقوا في رحاب دارة السفير عسيري وسمعوا منه مساء يوم الجمعة 20 أيار 2016 كلامًا ما زال بروحية الكلام الذي سبق أن سمعوه منه يوم الخميس 17 أيلول 2015 في حفل الاستقبال لمناسبة اليوم الوطني، كانوا يمثِّلون ثلاثة أرباع لبنان، وعملاً بقاعدة النسبية الديمقراطية فإن الثلاثة أرباع قادرة ومن حقها اتخاذ القرار، لكن ذلك مع شديد الأسف لا يحصل لأن الربع، يا ليته دُعي وإن كان لن يلبي، هو الجهة التي تسير الأمور بسلاسة إذا هي ارتضت وتُكبلها بسلاسل إذا هي قالت: لا. ولكي لا ندخل في أجواء الألغاز والتجريد فإن الربع الذي نعنيه هو «حزب الله» الذي نأمل ألا يطول تغريده خارج السرب اللبناني. ومع الأخذ في الاعتبار المعطيات التي جعلت لبنان بكل طوائفه وأطيافه عدا «حزب الله» موجودًا في رحاب الدارة التي يمثِّل ساكنها السفير علي عسيري قيادة المملكة المهمومة من الأحوال المرتبكة في لبنان المهتمة قلبًا وسعيًا من أجل إخراجه من سرداب التشبث والعناد الذي صار لزامًا التخلي عنه، إلا أن جوهر كلام السفير عسيري ليس فقط لأنه كما كل سعودي من أهل القمة إلى أفراد الشعب مسكونين بحب هذا البلد المحسود المغلوب على أمره، يحمل في ثناياه إشارات بأن كل مشكلة لها حلاَّل على نحو القول الشائع، إنما بعد أن يُعيد الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصر الله النظر في أسلوب تعامُله مع الأزمة وبحيث لا يبقى معتمدًا التقويض لكل نسائم مبادرات كتلك التي أطلقها الرئيس نبيه برّي بهدف الاستنهاض وتلك المبادرة الترويضية المتمثلة بـ «العشاء العلني» من جانب السفير السعودي علي عسيري الذي يجاهر بأن حرصه من حرْص ولاة الأمر في المملكة (الراحلون - طيب الله ثراهم وخادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان بن عبد العزيز أطال الله عمره) وأن لهفته على لبنان ليست لهفة سفير يسدي النصيحة وإنما «لهفة مواطن عربي يحب لبنان» كما أن مناشدته من أجل التفاهم لانتخاب رئيس للجمهورية هي «لأن لبنان لم يعد قادرًا على الاحتمال ولأن الوقت يمر والأخطار تتزايد والحرائق لا تزال تندلع وتتمدد، وكلما طال غياب حامي الدستور تقترب الدولة والمؤسسات من حافة الهاوية». ونحن عندما نأمل أن يُعيد السيّد حسن النظر فلأن الذي سمعناه يقوله في إحدى إطلالاته لمناسبة حزينة هي فقدانه بجوار مطار دمشق كبير القادة العسكريين في «حزب الله» مصطفى بدر الدين -رحمه الله وغفر له- كان كلامًا لا يتاسب مع احترام المناسبة كما لا موجب له في وقت يكون هنالك ضيق شعبي في أعلى درجاته من استمرار التعطيل واستمرار الدور القتالي لـ»حزب الله» في سوريا، ويكون هنالك في الأفق مبادرات موضوعية لنقْل لبنان من الأزمة الخانقة إلى بعض الآمال فالانفراج الكامل... إلا إذا كان السيّد حسن يرمي من وراء الذي كنا نتمنى ألا يقوله عن السعودية هو تعطيل مبادرة الرئيس برّي الاستنهاضية وإلقاء ظلال على مبادرة السفير عسيري الترويضية الذي وحده دون سائر السفراء الذين يمثِّلون بلادهم في لبنان الذي في استطاعته جمْع ثلاثة أرباع لبنان ومن دون أن يسبب الربع الذي كنا وما زلنا نتطلع إلى يوم لا يكون فيه مستمرًا على تغريده خارج السرب، تعطيلاً لهذا المشهد السياسي الذي حدث في الوقت المناسب بهمة السفير المناسب. وأما كلام السيّد حسن عن إسرائيل في معرض الحديث عن الجهة المسؤولة عن اغتيال مصطفى بدر الدين فإنه صادم أكثر بكثير من كلام قاله في لحظة انفعال شبيهة بلحظة انفعال السيّد حسن مع اختلاف الظروف والمشاعر، الرئيس ياسر عرفات ذات يوم في مقابلة أجراها معه الزميل الاستاذ بكر عويضة مدير التحرير في مجلة «التضامن» التي أسستُها في الثمانينات في لندن وترأست تحريرها. يومها كان الرئيس عرفات بات في صنعاء ملاذًا مؤقتًا له بعدما أجبره الرئيس حافظ الأسد (رحمة الله عليه) على مغادرة لبنان الواقع زمنذاك تحت وطأة الدور السوري الملتبس. بقية الواقعة يكملها الزميل بكر كما أوردها في مقاله في صحيفة «الشرق الأوسط» عدد الأربعاء الماضي (18-5-2016) على النحو الآتي:

سألتُ الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عن إمكانية الصلح بينه وبين الرئيس حافظ الأسد، بعد قطيعة وقعت بفعل الدور السوري في إخراجه، من طرابلس بلبنان في ديسمبر (كانون الأول) 1983، ضرب أبو عمار سطْح المكتب بقبضته وصرخ: مستعد للجلوس مع أرييل شارون ولن أجلس معه (الرئيس السوري) ثم علا صوته أكثر، وصاح باللهجة المصرية، متحديًا: تِقْدّر تنشر الكلام ده في مجلتك؟ أجبت: نعم، استطيع، واستأنفتُ الحوار.

كان ذلك ذات فجر في صنعاء، منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وعندما وقفتُ للمغادرة، قلت: هل يسمح لي الرئيس بملاحظة؟ أجاب: تفضل. أضفت: كلامك الغاضب ضد الرئيس السوري هو «سكوب» صحافي لمجلة ممنوعة في سوريا، سوقها الرئيسة لها بالعراق المعادي لنظام دمشق، لأنه يساند طهران في الحرب العراقية - الإيرانية. سأل أبو عمار: نعم، إذا ستنشر؟ قلت: النشر ليس المشكلة، لكن أليس من المحتمَل أن يسد هذا الكلام الغاضب الطريق أمام أي احتمال مصالحة فلسطينية - سورية إلى الأبد؟ صمت أبو عمار. وإذ نهض القيادي صلاح خلف (أبو إياد) يصافحني مودعًا التفت إلى الرئيس عرفات قائلاً: «بلاش هالكلمتيْن أخ أبو عمار»، فوافق: «طيّب بلاش».

في مكاتب المجلة في لندن رويتُ للكاتب الصحافي القدير فؤاد مطر، ناشر «التضامن» ورئيس تحريرها، ما جرى، فقال مبتسمًا: كنتُ سأفعل الشيء نفسه، ألسْنا مع المثل القائل «كلمة بتحنن، وكلمة بتجنن»؟ صحيح... حقًا، ما أخطر جنون الكلام، مذ كانت الكلمة ووُجِد متكلمون».

هذه الواقعة أضعها أمام السيّد حسن وأنا على استغرابي لعبارة يتمنى المرء لو يحذفها من أدبيات الحزب، تمامًا على نحو ما يجري عند المناقشات داخل مؤتمرات أو جلسات مجالس نيابية حيث يتم حذْف مقاطع أو كلمات محدَّدة من محاضر الجلسات احترامًا للمناسبة أو للمكان أو للقائل. والعبارة التي أعنيّها وقالها السيّد حسن مع شديد استهجاني وأُلوف غيري لقوله هي: «للأسف أن العدو الحاقد أنصفنا (في مسألة الطرف المسؤول عن اغتيال بدر الدين) ولكن المستعربين خُدَّام الأمريكيين هم من حرَّضوا علينا. أن الإسرائيلي اعترف بصدقنا ولكن هؤلاء الأعراب شكَّكوا بصدقيتنا وقدرتنا. إن إعلامنا العربي واللبناني إسرائيلي أكثر من إسرائيل».

واستكمالاً نضيف أن السيّد حسن لم يكتف بـ «إنصاف» إسرائيل وأرفق ذلك بإنذارها من مغبة الاعتداء، وإنما لم يوضح لنا حقيقة مَن هي الجهة التي اغتالت قائده العسكري وكيف ولماذا بهذه السهولة. فاتهام «التكفيريين» مثل اتهام «الاستعمار» على النحو المألوف. ونختم بالقول: لقد استنهض الحالة الرئيس برّي (أبو مصطفى) بمبادرة. وروَّض السفير علي عواض عسيري (أبو فيصل) الحالة بمبادرة والباقي على المائة والثلاثين الذين استضافهم السفير، فيما السيّد حسن (أبو هادي) يقوِّض، لأنه مقتنع بما يؤديه، كما اقتناعه الذي لا نجاريه فيه وهو أنه إذا على حدّ قوله «خرج الرئيس بشَّار الأسد اليوم وقال: إنه حاضر أن يكون في خدمة مشروع أمريكا ستنتهي الحرب في سوريا، . أما لماذا لا نجاريه فلاقتناع من جانبنا إنه إذا اتخذت الإدارة الأمريكية (ترامب أو كلينتون أو الثالث المجهول) قرارًا باستقطاب الرئيس بشَّار أو احتوائه فإن مفاعيل هذا الخيار ليست فقط إبقاء الرئيس بشَّار على رأس الدولة وإنما أن يفعل بـ»حزب الله» داخل سوريا وفي لبنان ما سبق أن فعله والده الرئيس حافظ الأسد بعرفات والعرفاتيين... وبذلك يكون التاريخ يُعيد نفسه.

- فؤاد مطر