ياسر حجازي
(3)
لماذا يتمّ التركيز على الوظيفة الثالثة في آية عمران 104(النهي عن المنكر) في الوقت الذي يتم تجاوز الوظيفتين الأساسيتين/ الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف؟ كأنها مبتورة من سياقها العام، ويراد لها أن تكون مبتورة تحت تأويلات من خارج المتن؛ أين الدعوة إلى الخير في عمل مؤسسة الهيئة؟ والخير هنا على الدلالتين: الدلالة المتعارف عليها في معنى الخير أو على الدلالة التي أقدمها لمعنى الخير: أنّه كلّ أعمال الحكومة التي تنفع الناس وتصلح للناس؟ أين الدعوة إلى الخير في المسمّى أو في الواقع؟ المقصد من هذه الأسئلة في قراءة الآية في مقالات عدّة هو التأكيد على أنّ مضمون الآية دنيوي ومدني وهو قائم بقيام الكيان/الدولة ذاتها.
* *
الدعوة إلى الخير هدف الآية.. والخيرُ في هذا السياق محلّه الدستور والقوانين والأنظمة وكلّ ما يسيّير أمور الناس ويسهلها من أوامر وتشريعات وتنفيذ وقضاء، والأمر والنهي هما أداتان لتحقيق هدف الصالح العام- الخير؛ الأمر بما هو معروف ومقبول، والأمر بحظر ما هو منكر ومرفوض، وكلٍّ من الخير والمعروف والمنكر أمورٌ وأشياءٌ متغيّرة زماناً ومكاناً؛ فالملاحظة الضرورية أنّ الآية لم تأمر هذه الطائفة في هذا السياق تحديداً: (بالدعوة إلى الله والأمر بالحقّ والنهي عن الباطل) وإن كانت هذه الوظائف ضمن سياق عمل الرعيل الأوّل، لكنّ هذه الوظائف هي ثابتة في المعتقد في الدين، وأمر الدين كلّه لله وليس لأحد من البشر، وهي ثوابت خصوصيّة تخصّ تصوّر إسلامي قد يقبله المؤمن وقد تجد تصوّراً آخر عن الثوابت الدينية عند شريك آخر من ديانة أخرى وثوابت مختلفة، فنحن لا يجب أن نسقط من حساباتنا أنّ دولة الرعيل الأوّل لم تكن دولة مقصورة على رعايا ديانة واحدة، وإن كانت الغلبة لهم ولتشريعاتهم، لكنّ ذلك لم يمنع من وجود بحبوحة من التعدّد تبعاً للمتن والوقائع واحترام طقوسهم وتشريعاتهم.
(4)
ما هو المنكر؟ هل هو ضمن مفاهيم الباطل والإثم الدينية أو ضمن المفاهيم الإنسانية العموميّة المرفوضة؟ من يحدّده؟ من يضبط تعريفه؟ من له سلطة منعه؟ هل هو ثابت أم نسبي ظرفي متغيّر؟ من له حقّ تنفيذ المنع بعد صدور تشريع المنع؟
إن إطلاق هذه الأمور لا يخدم أيّ كيان يريد أن يؤسّس لاستقرار تشريعي وتنفيذي، فأوّل أبجديات أيّ كيان سياسيّ أن تكون تشريعات الإباحة والمنع العموميّة هي على رأس صلاحيات سلطات الدولة ولا يمكن التنازل عنها دون تفويض يجعل اللا-مركزيّة جزءاً من السلطات العامّة وليست منازعة أو تعارض، وعلى ذلك فإنّ النهيّ عن المنكر هو أداة تشريعيّة بيد ولي الأمر/سلطات الدولة ومن يفوّضهم في أيّ مجال تنفيذي، وحدود النهي التشريع ثمّ التنفيذ في حدود ما يبيّنه النظام التشريعي. أمّا الذي يستخدم التأويل لمصلحة تنفيذ المضمون دون تفويض من ولي الأمر/سلطات الدولة فإنّه يحدث انشقاقاً وتنازعاً في السلطة نهت عنه الآية التالية مباشرة، وهذا التأويل الانشقاقي يستغلّ ما يُنسب للنبي العربي عليه السلام: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيديه، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه..).
يعبّر الحديث المنسوب عن تسلسل يختلف عن التسلسل الذي عبّره عنه المتن القرآني فيما يخصّ الدعوة، حيث يبدأ بالقوة وذلك من حيث انتهى المتن، الذي يبدأ بالتمنّي/عقد النيّة واللسان/الجدل والتفاوض/الهدنة أو الصلح ثمّ إذا عجزت تلك الوسائل ووقع المكروه/الاضطرار تبدأ حينذاك مشروعيّة القوّة ضمن شروط محدودة ومضبوطة، كان المتن قاطعاً في محدوديّتها وظرفيّتها واشتراطاتها. وبالتالي فنحن أمام مضمون حديث لا يتفق مع التسلسل القرآني والوقائع المدوّنة للرعيل الأول (الدبلوماسية أولاً والحرب أخيراً..)
ولنحاول تحت الاضطرار قبول صحّة الحديث المنسوب فإن إطلاق مضمونه بعيداً عن صاحب السلطة والأمر هو إطلاق يؤدي إلى فوضى تتعارض مع هدف المتن والحديث نفسه، وقد ينتج عنه وجود تنافس وانشقاق حول السلطة؛ ولذلك لا تكون سلطة التغيير باليد/ التغيير الفعلي إلاّ سلطة بيد الدولة أو ضمن تشريعات تنظيميّة تسنّها سلطات الدولة وتفوّض بموجبها مؤسسات حكومية أو أهليّة بجزء من صلاحياتها؛ لذلك فإن استخدام اليد/ القوة/ الفعل في تغيير ما تظنه منكرا (إن كان منكراً بقانون أو ليس منكراً) فإن هذا التصرّف بحدّ ذاته منكراً. وذلك، أن وجود سلطة داخل السلطة وداخل الدولة هو بحدّ ذاته منكرا دينياً ومدنيا ويستوجب السلطة أن تحول وتنهي عن هذه الحالة وتغييرها، وهذا ما حدث في النظام الجديد الذي عمل على الأمر بالمعروف فأمر بما يقبله الناس ونهى عمّا صار غير مقبول لعموم الناس وصالحهم، وذلك بتعديل صلاحيات الهيئة لأن شريعة تنفيذ الأمر من اختصاصات مؤسسات أخرى بيّنها النظام.