يمتلئ حلق الوادي بماء السيل الهادر الذي يمشط الأحجار وجذوع الأشجار ليقذف بها دون هوادة في منحدرات بعيدة، يرفع الأهالي أكفهم تضرعاً إلى الله بأن يكف عنهم اندلاق المطر اختلطت بأصوات هدير الماء المجلجل في حوض الوادي وقصف الرعد الذي يصم الآذان مشهد يتكرر لسكان الوادي وفي أحايين قليلة يترك جرحا غائرا بجرف امرأة أو رجل أو طفل صادفه السيل، ومثلما يحزنون أيضا يفرحون إذ يترك المطر أثرا بإخصاب الأرض وإرواء الآبار والغدران وإنبات المحاصيل الزراعية المعتنون بتراب الأرض من رجال ونساء يسرحون إلى الوادي الذي يزهو باخضرار أخاذ فحقول الحنطة تغدو كعرائس تتمايس مع نسائم الهواء وليس ببعيد أن تكتنز سنابلها بنضيد كالذهب يعقبها اجتثاث أعوادها وحزمها وحملها إلى مواقع يعرفها القرويون «الجرن» جمع «جرين» التي تستقبل عشرات الحزم ليطرحها الفلاح في باحة الجرين استعدادا لمرور الخرمة من فوقها لتهرسها وتفصل الحبوب عن عيدانها بفعل الثورين اللذين يتحركان في شكل دائرة لا يوقفهما إلا اكتمال الدياس لتجيء عملية الذرى ويقوم النساء بها في مواقع يتم اختيارها بحسب مرور التيارات الهوائية، وما أن يكتمل هذا العمل حتى يتم وضع الحبوب في اكياس مع إخراج الزكاة مع توزيع «الشكدة» للأطفال والمحتاجين يوم حافل بالعمل الجاد والإنتاج، القرويون يعرفون الحساب الزمني لارتباطهم بالزراعة كوظيفة توارثوها كابرا عن كابر مثل ( الطرفة والنثرة والجبهة والصرفة والذراع والسماك والزبرة) وغيرها توارثوها كعلم منقوش في الذاكرة من أجل الزراعة، حفروا الآبار في صميم الصخر وبنوا المصاطب على سفوح وقمم الجبال وهي على نوعين مسقوي تجلب لها مياه الآبار، وعثري تعتمد على سقيا المطر، والاعتناء بالزراعة شيء مقدس لا يمكن أن تغفل عيونهم عن جدرانها فمتى تهدم جدار من جراء مياه الأمطار سارعوا في إعادة بنائه، فالمصاطب هي السدود التي تحفظ ماء المطر وخيرات الأرض. ويتفاوت الإنتاج من عام للآخر بحسب كمية الأمطار وتعرضها للبَرَد الذي يهلك الثمار، وما فاض من انتاج المزارع من حبوب وفواكه يعرضونه للبيع في أسواقهم الأسبوعية وشراء البديل من المستور مثل البن والهيل والسكر والشاي وغيرها، ومثلما يزرعون أيضا يفرحون ويرقصون ويعبرون عن ذواتهم من خلال الرقص الشعبي كالعرضة والمسحباني واللعب واختيار الوقت مهم لإقامة الفرح، ويتم عادة في أيام الأعياد والزواجات إذ يشارك الجميع كبرا وصغارا دون تشكيك في نياتهم أو عباداتهم أو إخلاصهم فهم يعرفون حقوق العبادة كاملة دون نقصان، ويبتهجون بطريقتهم الخاصة ولصوت الزير تأثيره الطروب في نفوسهم فما أن يملأ صوته ساحة السوق حتى يهرعوا إلى دائرته مشاركة وفرجة ومتابعة للقصيد، الشعراء يتبارون ويقتفون الرمز كنوع من التحدي، لذا شاعت المقولة (المعنى في بطن الشاعر) ومازالت قصائد شعراء وادي قوب كعبدالله الزرقوي وخرصان وغيرهما مسجلة ليس في الذاكرة فحسب بل منقوشة في جدران المنازل والكثير من مناسبات الزيجة تسجل تاريخا يذكره الأهالي بل إن تاريخهم يربطونه بأبرز الأحداث مثل وقت هجمات الجراد، أو السيول الجارفة، أو مناسبات الزواج.
رغم تباعد قرى وادي قوب أنذك، وحيازة كل قرية بمبانيها الحجرية وناسها إلا أن الحميمية ومساقي الآبار والمصاطب الزراعية ومواقع الكلأ كانت تجمعهم حتى الصهر فيما بينهم ليكونوا كالنسيج المترابط، للوادي عزفه الفريد والشجي الذي يعرفه سكانه وليس أجمل ولا أبهج من جريان مائه الذي يروي القلوب ويملأ النظر ويروي النباتات..
- جمعان الكرت