خمسة عشر عامًا مرت على نشوء موقع «الورّاق» أكبر مكتبة رقمية عربية موثوقة عبر الإنترنت، وهو أحد الأعمال المعرفية الرائدة التي قدمتها «القرية الإلكترونية» في أبو ظبي ليعزز حضور المحتوى الرقمي العربي عبر الشبكة العالمية، وهو في مجمله حضور ضعيف وغير جاد، وتقف خلفه مبادرات فردية آيلة للاختفاء المفاجئ، وتحيط بها عدة ملاحظات تجعل الاستفادة محدودة، والدقة «فيها نظر» فلا يجد القارئ، أو الباحث مصادر يمكن الاعتماد عليها والاستشهاد بها.
الدراسات في هذا المجال وتوصياتها لم تجد نفعًا، والمؤسسات الثقافية العربية لا تضع النشر الإلكتروني ضمن خططها ورؤاها وهواجسها الأمر الذي أضعف أثرها وعزلها عن الجيل الجديد الذي انصرف إلى منصات «التواصل الاجتماعي» بكل جاذبيتها وإِنسانيتها.
مشروع «الورّاق» كان نبتًا فريدًا في حدائق المعارف العربية ضمن الاشتراطات الراهنة التي تتطلب السرعة، وجودة المحتوى، وحسن تنظيمه وشموليته مع الدقة، ومراعاة قواعد التصنيف والفهرسة، والاعتناء بقوانين الملكية الفكرية، والاستثمار الأمثل للتقنية عبر تدشين المكتبة السمعية، والبصرية، ومجالس الوراق.. أخيرًا إتاحة تطبيق الوراق للهواتف الذكية.
تشمل مكتبات الوراق الرقمية كتبًا إسلامية تراثية، وأدبية متنوعة، وشعرية، ولغوية، ودراسات في الأدب، ويقدم محتواه بصيغ مفتوحة يمكن الباحثين الاقتباس منها والاستشهاد بها وحفظها للرجوع إليها مع خصائص البحث المرن عبر فرع محدد أو كل الفروع؛ وهي خصائص لا تتوفر في أكثرية المكتبات الرقمية التي تتيح الأوعية الرقمية بصيغة الصور المغلقة pdf من الكتب الأصلية بينما اعتمدت إدارة الوراق إلى إعادة كتابة نصوص أمهات الكتب مستعينة بمجموعات العمل من عدة بلدان، وفي ذلك براهين على الوعي برسالة المؤسسة الثقافية العربية وقدرتها على صناعة الاختلاف والدقة والبراعة، واستلهام روح العصر لإضفاء مزيج من الحضور للتراث العربي المكتوب، ولو تآزرت جهود المؤسسات الثقافية لقدمت نسقًا موحدًا يُعنى بأدبيات النشر الإلكتروني للمكتبة التراثية والحديثة لأن كثيرًا من الاجتهادات الفردية في هذا المجال لم تسلم من أخطاء النشر، أو تشويه المحتوى، ومجاوزة اشتراطات الحماية الفكرية للنصوص الحديثة والدراسات.
لدينا في دول الخليج العربي تجارب ثقافية وإعلامية سابقة، وبعضها ناجح مثل مكتب التربية العربي، ومؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك، وأظننا اليوم بحاجة لتجمع ثقافي من أجل بناء مكتبة عربية رقمية تُنشأ من أجلها مؤسسة ثقافية خليجية أو عربية مشتركة تتوفر لها الدعائم المالية، والهياكل الإدارية، والخبرات في مجال النشر والثقافة واستثمار التقنية في ظل تراجع المؤسسات الثقافية التقليدية وذبول بعض أدواتها من مجلات وسلاسل كتب أو مجلات دورية فطبيعة العصر وثورة التقنية تفرض اليوم أشكالاً جديدة للبقاء واستمرار الأثر. في الخليج العربي مؤسسات ثقافية تشكل علامات مهمة في خريطة الثقافة العربية مثل المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت، والمجمع الثقافي وهيئة الكتاب في أبو ظبي، ووزارة الثقافة في الدوحة، ومركز الملك فيصل ومكتبة الملك عبد العزيز في الرياض، والأخيرة رعت مشروع «الفهرس العربي الموحد» وهو عمل رائد قدم دليلاً واضحًا على نجاح المشروعات المشتركة حين يتوفر لها الدعم والإدارة الواعية، والرؤية التي يؤمن بها الجميع. النجاح الوافر الذي تحقق للفهرس العربي لا يقل عن النجاح الباهر للوراق؛ الأول يقلص الجهود والأموال ويحد من المبادرات الفردية التي لا رابط بينها، وهو سند أولي لبناء المكتبات، والوراق مكتبة شمولية يجب أن تتسع دائرة تغطيتها الزمنية، وتسهم المؤسسات الثقافية في رفدها ومساندتها وتزويدها بالمحتوى المعاصر، وعلى الجهات التعليمية والأكاديمية أن تجعلها جزءًا أصيلاً في قائمة مصادرها، وتوثق صلة الطلاب والباحثين بها فالمشروعات الجادة لا يمكنها البقاء منفردة أو مأخوذة بالبهرجة والاستعجال والفردية السائدة في الوسائط الرقمية اليوم.
- محمد المنقري