إنّ هوية الرواية قد تتحقق بفعل المعاش واليومي مع حتمية وجود التاريخ والحب كانتماء لتلك الهوية الأدبية, وبالتالي فإن البناء الفني للرواية ينشأ حول فاعلية الواقع, وتعددية الشخوص, والبيئة (وأقصد بذلك المكان) حيث تتشكَّل تفاصيله الجغرافية الدقيقة في بنية الرواية الغنية بوصفها ومفرداتها، وبذلك تمنح هذه الكتابة خصوصية واقعية مكانية تسعى إلى إبراز حالة الوعي لدى المتلقي، وقد رصدت رواية «الجنين الميّت» للروائي ناصر الجاسم الصادرة عن دار الانتشار العربي بالتعاون مع نادي تبوك الأدبي 2016 عن تسجيل حالة خاصة للمكان بكل طقوسه ليصبح هذا المكان «الشقيق» أنثى بيضاء مع اقتراب الفجر على حد قول الروائي.»الفجر والسيجارة ترتجف بين أصابعي والشقيق أنثى بيضاء تفيق من سكرة الليل».
البيئة الأحسائية ذاكرة سردية تؤصل لدلالات عديدة، وقد تكون ثيمة الحب المؤطرة بإطار المكان هو لُب الحدث والمخزون الفعلي الذي تتجه إليه هذه الرواية التي تكشف عن قصة حب رائعة بتفاصيل انتقالية تنشأ بين عمر السالم ودانة الحسن وتحرك هذه القصة اللغة الشاعرية والوصفية التي تبرهن على جماليات وخبرات كبيرة للكاتب فما وصفه لــ»الشقيق» منذ بداية الرواية إلا ليذهّن لذائقة المتلقي بأن المكان يخلق حالة حب قد تتطور لتشمل طقوساً خاصة بهذا المكان وهي بمثابة دلالات تنويرية لا يمكن أن يغفلها الكاتب تماماً. كما هنا: «ومن طقوس هذه الليلة التزين بالريحان الأحسائي فتجد الشقيقيات قبل هذه الليلة أو في عصر الرابع عشر من شهر شعبان يتوجهن إلى مزارع القرية..» هناك فضاء مكاني كبير يُمثل طاقة هذا العمل يتمثّل في الانتقال بين منطقة وأخرى بين الشقيق والقرين وبين الشمال وجبل القارة حتى تصل أحداث الرواية إلى مكة المكرمة, كل هذه الأمكنة تنضوي تحت مظلة الحب التي تتمازج - إن صح التعبير - بين عمر ودانة, وحالة القلق التي تعتري بطل الرواية من «الشيطان يوسف» الذي يظهر عادة في اللحظات المشحونة بالجمال «في هذه اللحظة المشحونة بالجمال يستيقظ يوسف -.. يخرج من قبره بعد رقدته الطويلة.. يخرج بنصف جسده العلوي بلا قدمين..» هو ذلك يوسف أحد أجداده الذي طالما تحدث عنه الشماليون بفخر وإعجاب لقوته وجبروته والذي يكشف عن مسار آخر للرواية من منطلق بناء سلوك آخر يصعّد الحدث ويجسد حالة الصراع في هذا المناخ الغرامي للرواية «لو كان يوسف حياً لقضمت رقبته كخيارة».
المكان في رواية «الجنين الميت» ينمذج لقيمة أخلاقية ومن هنا يدرك قارئ هذه الرواية بأن «الشقيق» كمكان طاغ في هذه الرواية قدم للبطل كشخصية متأزمة بواقعها شحنة من العاطفة والحب بعدما كان «عمر السالم» شاذاً كعادة أهل الشماليين الذين كان يسكن بينهم وتربطهم بالرمال الصفراء المتحركة والخشنة علاقة لا تكاد تنفك عنهم, كما يذكر الروائي نزعتهم المتوترة والحاقدة وأفواههم المليئة بالسباب والشتائم على عكس طبيعة «الشقيق» كمكان لطف لسانه وغمر قلبه بالحب. فالحب وقود الحياة على حد قول الشاعر الإنجليزي روبرت براونتغ. ولا يمكن لنا طمسه من عوالم هذه الحياة المليئة بالهموم والمتناقضات.
الرواية تقدم لنا وبلغة فريدة تمثلات الحب وفق قالب مكاني تحركه الشخوص وتغذيه حالة العشق التي ارتبطت بين عمر ودانة حتى انتهى بهما ذلك إلى حالة تكاد تكون سوداوية في نهاية الرواية، فعمر السالم ينتهي موظفاً صغيراً في التعليم ولم يتزوج رغم بلوغه الثلاثين من عمره أما دانة فقد بقيت لها أمنية واحدة وهي ألا يخمد فعل الحب بينهما وألا يصبح جنيناً ميتاً فرواية «الجنين الميت» تطوع الحب في مجتمع محافظ مما يؤكد لنا الكاتب بأن الحب لا تحكمه قيود أو أمكنة أو ثقافات أخرى.
طاهر الزارعي - قاص - كاتب
Tzarai15@hotmail.com