نواصل ترجمتنا لتحليل اجتماعي-سياسي نوعي بقلم البروفيسورة دانييلا بيوبي. والبروفيسورة دانييلا بيوبي هي زميل أول مشارك في معهد الشؤون الدولية في روما، وزميل باحث مؤقت في جامعة روما «لا سابينزا». ونشرت الورقة في ديسمبر 2013.
وكانت استجابة مرسي للأزمة ذات مسارين: فمن جهة، دعا إلى حوار وطني متأخر (قاطعته المعارضة)، وألغى البنود الرئيسة من إعلان 22 نوفمبر الدستوري (8 ديسمبر). ومن ناحية أخرى، دفع نحو نهاية سريعة لعملية وضع الدستور، بالرغم من معارضة جبهة الإنقاذ الشرسة. وأنهت الجمعية التأسيسية، التي يهيمن عليها الإسلامويون، المسودة النهائية للدستور في الـ30 من نوفمبر. ومن ثَمَّ، جرى إقرارها في استفتاء شعبي في الـ15 والـ22 من ديسمبر بنسبة 64 % من الأصوات؛ ولكن نسبة إقبال الناخبين على التصويت بلغت بالكاد 33 % فقط.
وبفضل هذه الخطوة، أصبح يمكن للجماعة (حزب الحرية والعدالة) الاعتماد على الدستور الجديد، وعلى كامل السلطة التشريعية المؤقتة الممثلة في مجلس الشورى؛ (45) ولكن الضريبة السياسية لهذا النجاح النسبي كانت باهظة جداً.
فبعد عامين من الثورة وبعد ستة أشهر من انتخاب مرسي، كانت مصر تعاني استقطاباً حاداً على نحو متزايد، ويكاد يجعلها خارجة عن السيطرة تقريباً؛ في حين عجز حزب الأغلبية في البلاد، الجماعة (حزب الحرية والعدالة)، تماماً عن فرض الاستقرار والتحكم بمؤسسات الدولة. وبدأت القوات المسلحة بتقديم نفسها مجدداً باعتبارها الحَكَم النهائي في السياسة الوطنية، بعدما تخلصت من مسؤولية ممارسة السلطة ولم تعد مسؤولة عن فشل الحكومة في تلبية احتياجات المواطنين، بعدما تخلّت عن السلطة التنفيذية في أغسطس 2012. (46) وكانت وزارة الداخلية غير خاضعة لسيطرة السلطة التنفيذية، كما اتضح من ضعف حماية قوات الشرطة للقصر الرئاسي في ديسمبر 2012، وكما اتضح من الإضرابات واسعة النطاق لقوات الشرطة في جميع أنحاء البلاد في الأشهر الأولى من عام 2013، وكما اتضح من تزايد الفوضى على الصعيد الوطني (وهذا هو الأهم). وكانت قوى الأمن الداخلي، وهي تنتظر معرفة من سيكون الراعي السياسي المقبل، تُشعر الجميع بأهميتها لرفع قوتها التفاوضية. (47).
وأخيراً، فإن دستور 2012، بدلاً من أن يوفر خطة مشتركة لبناء مصر ديمقراطية جديدة لما بعد الثورة، تعرّض لانتقادات على نطاق واسع؛ لأنه لا يختلف كثيراً عن دستور 1971، ولأنه لا يتضمن مطالب الثورة، ولأنه يتسم بالغموض في كثير من النواحي.. وبصورة عامة، لأنه صيغ صياغة بأسلوب رديء. وإن هذه الوضعية قد تكون ناجمة عن عدم الكفاءة، وعن وجود صعوبات في التوصل إلى توافق في مجتمع مجزأ؛ ولكنها كانت نتيجة، قبل كل شيء، العجلة التي فرضها الرئيس على الجمعية. (48) وكانت الستة أشهر، التي كان الدستور خلالها ساري المفعول (ديسمبر 2012- يوليو 2013)، كافية لكشف عيوبه المتمثّلة في وجود تفسيرات مختلفة وأحياناً متناقضة لمواده. (49)
محاولات الإخوان للسيطرة على الدولة والتشريع
وبعد نجاح الاستفتاء على الدستور الجديد، حاولت الجماعة (حزب الحرية والعدالة) الاستعداد للانتخابات البرلمانية مستغلة موقفها المتفوق داخل مؤسسات الدولة والسلطة التشريعية المكتسبة حديثا لمجلس الشورى. وكان الخطر، بطبيعة الحال، هو فقدان الإجماع الشعبي في هذه العملية؛ نظرا لأن التدهور السريع في الظروف المعيشية وحالة الفوضى المتزايدة كان ينظر إليهما على نطاق واسع بأنهما نتيجة لسوء حكم الجماعة وبحثها عن مصلحتها الذاتية. (50)
وجرى تعديلان وزاريان في يناير ومايو 2013، وارتفع عدد وزراء الإخوان في الحكومة إلى ما مجموعه 10 وزراء (من أصل 35 وزيرا). وشملت وزارات الإخوان الجديدة الاقتصاد والتنمية المحلية؛ وهي، كما زعمت المعارضة، وزارات مهمة في التحضير للانتخابات. (51) وفي سبتمبر 2012 ويونيو 2013، عيّن مرسي محافظين جدداً لـ27 محافظة مصرية، وكان منهم 10 محافظين من الجماعة. (52)
وإلى جانب هذه التعيينات السياسية العليا، التي تتغيّر قانونيا في الديمقراطيات بعد كل أغلبية جديدة؛ فإنه من الصعب تحديد مستوى تغيير الموظفين الإداريين، لعدم وجود معلومات مؤكدة يمكن الاعتماد عليها. من هنا، فقد زعمت المعارضة أن الجماعة تسعى إلى «أخونة الدولة». ومن المرجح أن الجماعة (حزب الحرية والعدالة) حاولت زرع أعضاء موالين في المناصب البيروقراطية الرئيسة بقدر استطاعتهم. ومن الإنصاف، أيضا، القول بأن الدولة العميقة الاستبدادية بذلت قصارى جهدها لتخريب حكم الإخوان. وعموما، يبدو أن الجماعة/ حزب الحرية والعدالة لم تحاول (على الأقل ليس خلال حكمها القصير) تنفيذ تطهير أو إجراء تغيير جذري في ميزان القوى داخل مؤسسات الدولة وإداراتها، وخاصة إذا ما قورنت بحالات «ما بعد ثورية» أخرى. وإنّ ما كان الإخوان يفعلونه، بدلا من ذلك، هو محاولة إيجاد طريقة للتعايش مع ممثلي النظام السابق؛ مع تعاون بعض الإخوان معهم، عندما يكون ذلك ممكنا. وكان هذا هو الحال مع المؤسسات التمثيلية المستقلة عن الدولة؛ مثل النقابات العمالية التي ترعاها الدولة، كالاتحاد العام لنقابات مصر وجمعيات الأعمال. (53)
إلى جانب التوطيد البطيء لوضع أعضاء موالين لها في المؤسسات الرئيسة، حاولت الجماعة (حزب الحرية والعدالة) أيضا استخدام السلطة التشريعية لمجلس الشورى الذي تسيطر عليها الآن لصالحها؛ ولكن لم يُنتج هذا المجهود أية نتائج إيجابية، لأن القضاء كان يبطل كل قانون رئيس يمرره الإسلامويون. والأهم من ذلك هو أن المحكمة الدستورية العليا رفضت قانون الانتخابات البرلمانية ثلاث مرات؛ والذي كان من المقرر، وفقا للدستور الجديد، أن يكتمل في غضون شهرين من سريان مفعول الدستور. (54) ونتيجة لذلك، جرى تأجيل الانتخابات البرلمانية إلى أجل غير مسمى. وبسبب هذا التأخير، اتسع مجال مجلس الشورى، ليشمل مسائل أخرى بخلاف قانون الانتخابات؛ بما في ذلك قانون جديد بشأن المنظمات غير الحكومية، وقانون التظاهر، وقانون الإصلاح القضائي. لقد كانت تلك القوانين جميعها مثيرة للجدل للغاية، ولم تتم الموافقة على أي منها قبل استيلاء القوات المسلحة على السلطة في يوليو 2013؛ ولكن يتضح، بنظرة سريعة على المسودات، ميل أكثرها إلى الاستمرارية مع قوانين مبارك بدلا من التغيير، وخاصة محاولة الجماعة/ حزب الحرية والعدالة تفصيل قوانين جديدة لتلبي مصالحها قصيرة الأجل وليس لتحقيق رؤية طويلة الأجل. وينطبق ذلك على تدابير محافظة، إن لم تكن جائرة ومتوحشة؛ كقانون المنظمات غير الحكومية والمظاهرات والدوائر الانتخابية الجديدة المنصوص عليها في القانون الانتخابات، الذي رفضته المحكمة الدستورية العليا. وحكمت المحكمة الدستورية العليا في 2 يونيو 2013، كما كان يخشى الإسلامويون، بأن مجلس الشورى وكذلك الجمعية التأسيسية لوضع الدستور غير دستورييْن؛ ولكن المحكمة ذاتها قضت أيضا بأن دستور 2012 يجب أن يبقى ساري المفعول، نظرا لأنه جرت الموافقة عليه في استفتاء شعبي. كما ينبغي أن يحتفظ مجلس الشورى بالسلطة التشريعية حتى الانتخابات المقبلة، كما جاء في دستور 2012. وهكذا، تجنّبت البلاد كارثة سياسية؛ ولكن حكم المحكمة الدستورية العليا ألحق أضرارا بالغة بالشرعية الضعيفة بالفعل للمؤسسات السياسية. وفي الواقع، لقد كانت الطريقة التي أثّرت عبرها المحاكم في العملية السياسية، بعد خلع مبارك، استثنائية. وإذا نحّينا جانبا الحجج القانونية الصلبة التي يُستشهد بها أحيانا من قبل القضاة (55)، فإنه لا يمكن للمراقب إلا أن يستنتج أن المعركة السياسية كانت تُدار بأقنعة من الشكليات القانونية،وأن هذه المعركة كانت (ولا تزال) تشكل نظام ما بعد مبارك السياسي.
الدولة العميقة« تنتفض وترد الصفعة لثورة 25 يناير
وخلال هذا الوضع السياسي المضطرب والملتهب للغاية، بدأت مجموعة صغيرة غير معروفة أطلقت على نفسها اسم »تمرد« بجمع توقيعات لطلب إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. لقد جذبت حملة »تمرد« الناشطين الشباب وأحزاب المعارضة والشخصيات العامة، وكذلك العديد من المواطنين العاديين الغاضبين من تدهور الاقتصاد والأمن. (56) ولكن كان من المدهش حقا أن الحملة انضم إليها أيضا رجال أعمال وشخصيات من المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية (الأزهر والكنيسة القبطية)، ومن قوات الأمن، وفي نهاية المطاف القوات المسلحة نفسها.
الانقلاب على الرئيس المنتخب
وبلغت التعبئة المناهضة للإخوان ذروتها يوم الـ30 من يونيو 2013 (الذكرى السنوية الأولى لفوز مرسي بالرئاسة في عام 2012)، عندما احتشد ملايين المصريين في ميادين المدن الرئيسة. وفاجأ حجم الاحتجاج الكثيرين؛ وهو ما برّر تحرك القوات المسلحة التي أمهلت الرئيس 48 ساعة فقط لتلبية «مطالب الشعب». وفي الـ3 من يوليو وبعدما رفض مرسي التنحي، تدخلت القوات المسلحة، وعلقت الدستور، وعزلت الرئيس من منصبه واحتجزته في مكان مجهول. (57) وفي اليوم نفسه، أعلن الجنرال عبد الفتاح السيسي خارطة للطريق أقرها شيخ الأزهر أحمد الطيب والبابا تاوضروس الثاني، فضلا عن قادة جبهة الخلاص الوطني وحزب النور السلفي. وبناء عليه، أصبح عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية العليا، رئيسا مؤقتا لمصر ومكلفا بالإشراف على فترة انتقالية لمدة تسعة أشهر حتى إجراء انتخابات جديدة. ومنحت خارطة الطريق، التي شرعنها إعلان دستوري أصدره عدلي منصور في الـ8 من يوليو، الرئيس الجديد السلطة لتسمية لجنة قانونية لتعديل دستور 2012؛ لكي يتم تنقيحه من قبل جمعية دستورية تتكون من 50 عضوا يعينهم الرئيس. (58) ومن ثَمَّ، يُنظم استفتاء على الدستور المعدل، وبعد تلك الخطوة تُنظم الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وفي هذه الأثناء، يترأس حازم الببلاوي، وهو اقتصادي محترم، الحكومة التي تكونت أساسا من تكنوقراط وشخصيات سياسية غير إسلاموية. ومن الناحية النظرية، يرأس المدنيون الحكومة المؤقتة؛ ولكن تعيين الجنرال السيسي نائبا لرئيس الوزراء لشؤون الأمن القومي (بالإضافة لكونه وزير للدفاع) جعل منه، بحكم الأمر الواقع، الرجل القوي في النظام. وقَبِلَ السياسيون الليبراليون بهذا الترتيب، وخاصة محمد البرادعي، الذي رُشح كنائب للرئيس، (59) والذي صرح في السابق بوضوح بشأن الحاجة إلى الحكم المدني وانتقد تصرفات المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
يتبع
- ترجمة وتعليق/ حمد العيسى
hamad.aleisa@gmail.com