شهد كثير من العلوم باختلافها نوعًا مما يمكن تسميته بالبنوّة المعرفية، أو البِر الثقافي؛ إِذ ينهدُ أحد المثقفين المهتمين لمؤلفات عالم من العلماء ويمنحها من وقته وجهده الكثير، إما بتحقيقها تحقيقًا جيدًا كما فعل العلامة عبدالسلام هارون بمكتبة الجاحظ، حيث حقق مؤلفاته تحقيقًا مميزًا، وإما بإعادة طباعتها ونشرها، والنماذج على ذلك كثيرة لا تُستقصى في مقال.
وقد يزيد هذا المهتم من جهوده تجاه شيخه أو أستاذه فيوليه من العناية والاحتفاء ما يفوق ذلك، وكأنه نوع من الشعور بالبنوّة المعرفية، أو البِر الثقافي - كما أسلفت-.
ومن الشواهد الحية على ذلك أن رُزق الشيخ العلامة محمد بن ناصر العبودي -متّع الله به- ابنًا يمت إليه بقُربى الثقافة، ووشيجة المعرفة وهو الدكتور محمد بن عبدالله المشوح مالك دار الثلوثية للنشر والتوزيع، وعميد ندوة الدكتور محمد المشوح الثقافية، الذي يمكن أن نعدّه الابن المعرفي البارّ لعميد الرحالين، فقد عمد المشوح إلى جلّ مؤلفات الشيخ الرحالة العبودي وطبعها عن طريق دار الثلوثية طباعة فاخرة، وأنشأ للشيخ موقعًا على الشبكة العنكبوتية يشرف عليه المشوح شخصيًا. وهذا جهد يمكن أن نجد من بذل مثله مع بعض العلماء.
إلا أن المشوح لم يكتف بذلك، بل سعى إلى استضافة الشيخ في ندوة الدكتور محمد المشوح الثقافية، وتكريمه مرتين، كانت الأخيرة يوم الثلاثاء 3 - 8 - 1437هـ، وكانت الندوة توزّع على الحضور بعض مؤلفات الشيخ مجانًا رغبة في نشر علمه. إضافة إلى أنه ألف عن الرحالة كتابًا أشبه من قبيل السيرة الغيرية سماه (عميد الرحالين محمد بن ناصر العبودي).
وفاق الاهتمام هذه الصورةَ المشرقة إلى أن نسقت دار الثلوثية مع جامعة القاهرة ممثلة في مركز الدراسات الشرقية لإقامة ندوة دولية موضوعها: جهود ومؤلفات ورحلات معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، ودُعي إليها عدد من الباحثين والمهتمين قدموا بحوثًا ودراسات مختلفة في أدب العبودي، وحظيت بحضور علمي كبير، عام 1435هـ.
أما في هذا العام 1437هـ فقد نظمت دار الثلوثية أيضًا بالتنسيق مع جامعة القاضي عياض بالمملكة المغربية ندوة أخرى عن جهود الرحالة العبودي، نالت كثافة إعلاميًا، وحضورًا على مستوى رفيع؛ حيث افتتح الندوة وحضرها ورعاها سفير خادم الحرمين الشريفين في المغرب معالي الدكتور عبدالعزيز بن محيي الدين خوجة، وحضرها مسؤولون من المملكة المغربية، ومن أهم ما في الندوتين أن قُدّمت بحوث مختلفة عن نتاج الشيخ العلمي. ولئن ضاق المقام عن استعراض مظاهر بر المشوح بهذا الأب الروحي والوالد الثقافي، فهو عن إبداء الإعجاب بجهوده وإزجاء الشكر أضيق. إن هذه الفكرة الخلاقة في سبيل نشر العلوم التي أفنى فيها علماؤنا في المملكة وفي غيرها أعمارهم خليقة بأن تكون نموذجًا يُسار على نهجه، وليت بعض رجال الأعمال يتبنى مثل ما تبناه المشوح مع علماء آخرين، مثل أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري هذا العلامة الموسوعي
-وهو يعكف الآن على نشر الموسوعة الكاملة لمؤلفاته- فإن كثيرًا من المثقفين والأدباء ينتظرون رجلاً يتصدر لنشر علمه في ندوات كالتي حظي بها العبودي من قِبل المشوح، ولو على المستوى المحلي مبدئيًا، فإذا كان تكريم العالِـم في مهرجان ما تكريماً لشخصه؛ فإن نشر علمه تكريم للعلم نفسه.
واختلاف الفنون التي ألف فيها ابن عقيل الظاهري يجعل عبارة المشوح عن العبودي تصدق عليه أيضًا؛ إِذ قال: «العبودي نال من المعارف حظّه»، فقد نال ابن عقيل الظاهري من المعارف حظه كذلك، وبقي أن تنال شخصيته وعلمه حظهما وافرًا من الذيوع والانتشار اللذين تستحقهما من رجال الأعمال المعنيين بالثقافة والفكر، أو الجهات التي تقع عليها مسؤولية كبيرة في هذا الأمر.
والجهات الأكاديمية عليها قسط غير يسير في هذا من خلال كراسي البحث والمسارات البحثية في وحداتها وأقسامها العلمية.
وشخصية شمولية كشخصية ابن عقيل تعد مادة ثرية للموضوعات البحثية والندوات العلمية، وحِلَق العمل المتخصصة، والاستفادة من هذه المنصات الأكاديمية وغيرها في زيادة ثراء البحث في الشيخ ابن عقيل وعنه سيعود بآثار حميدة على البحث العلمي، كما أنه وفاء يجب ألا يتأخر، وعناية لا يجوز التفريط فيها. وما ناله الشيخ بأخرى وتكريمه في غير واحدة من المناسبات يؤمِّل محبو الشيخ ابن عقيل أن يكون البداية لا النهاية، وأن يكون انطلاقة حقيقية للرعاية الكاملة للشيخ، والحفاوة الحقيقية باسمه ومكانته وعطائه.
- د. سعود بن سليمان اليوسف