«أول طفرة اقتصادية عاشتها جزيرة العرب كانت في سبعينيات القرن السابق»، قول شائع ورائج بين الناس حتى وإن كان اعتقاداً خاطئاً طغى على كل الحقائق وأنكر التاريخ وأحداثه، ولكن الحقيقة أبعد من ذلك وتعود لبداية تاريخ الجزيرة العربية المكتوب، وبالتالي فإنَّ الطفرات والدورات الاقتصادية توالت على الجزيرة عبر تاريخها الممتد من آلاف السنين.
كان أولها طفرة الطيب والتوابل في القرون الثلاثة قبل الميلاد, وفي هذه الحقبة الزمنية كان الصراع السياسي والتوسع الحربي بين دول عدة في الشرق الأدنى, لذلك تجلت أهمية البحر الأحمر والخليج العربي الواصلة بين الشرق والغرب, وكما هو متعارف عليه فإن من يسيطر على الموانىء فإنه يسيطر على التجارة بين دول الشمال والجنوب, ولذلك فقد برع عرب الجزيرة في شرق البحر الأحمر والخليج العربي ببسط نفوذهم على تلك الموانئ بانفراد تام في بعض من فترات تاريخهم وتحت سيطرة قوى خارجية أحيانا (الآشوريون, اليونان والرومان), مع سيطرتهم المطلقة على طرق القوافل والتجارة البرية, فلعبوا دور الوسيط التجاري حيث شهدت جزيرة العرب نهضة تجارية خصوصاً أنها كانت المنطقة الواصلة بين الشرق والغرب، بل كانت هي المنطقة العالمية الوحيدة في ذلك الزمان، فاكتملت الدورة الاقتصادية من بحر وبر, حتى إنَّ استرابو الجغرافي اليوناني الشهير شبَّه تلك القوافل من كثرة عدد جمالها وضخامة بضاعتها من البخور والتوابل بالجيوش الجرارة, فلقد عمل معظم العرب بالتجارة خصوصاً أنهم كانوا يملكون مقوماتها من المال أو وسائل نقلها أو حتى حمياتها إن كانت تلك القوافل تمر بأراضيها مما نتج عن ذلك ازدهار تجاري ودورة اقتصادية متنامية.
ولتتجلى الصورة لنا لفهم حجم تجارتهم لنضرب بالبخور مثالاً على ذلك، حيثُ أنَّ ما ذكرته الكاتبة إليزبث مونرو في مقال لها بعنوان: «الجزيرة العربية بين البخور والبترول» ليعطي صورة واضحة عن ذلك، حيث ذكرت أن أدلة مكتوبة من المستهلكين لتلك البضائع العربية في سجلاتهم من مصر القديمة وبابل والهند واليونان إضافة إلى القوة العظمى الناشئة في تلك الحقبة دولة الروم هو الدليل والبرهان.
ولعل الازدهار الاقتصادي لروما وانجذابهم للكماليات لتصبح من مستلزمات المعيشة كما هو ديدن الحياة وسلم الأولويات حسب الحالة الاقتصادية فقد استهلكت جميع واردات البحر الأحمر من البخور في سنة, في مناسبة وفاة تحنيط الإمبراطورة بوبيا عام 65 ميلادي فأصبح الطلب عالياً على منتجات الجزيرة العربية, ولم تقتصر تجارتهم على هذه المنتوجات بل تعددت وتنوعت فمن جنوب الجزيرة تاجروا بالتمر والتوابل والبخور، ومن شمال سوريا حملوا المنسوجات الحريرية بعدما نقلت من الصين كمنتجات الخام والأواني الزجاجية من عسقلان واللؤلؤ من الخليج العربي، ومن الأنباط تاجروا بالذهب والفضة، إلا أن تجارتهم لم تكن كلها معتمدة على نقل الكماليات بل إن للطقوس الدينية دوراً في ذلك فاستوردوا وصدروا الطيب والتمر لشعوب مصر الذين كانوا بدورهم يستخدمونهم في التحنيط, فأصبحت تجارتهم تجارة عالمية وتبادلوا المعاملات التجارية مع شرق وغرب العالم القديم وأصبحوا نقطة الوصل والالتقاء بين أطراف هذا العالم فازدهرت حياتهم وانتعش اقتصادهم، ولعل أنه يصعب لمخيلة الإنسان مهما بلغت سعة أفقه أن يتخيل رغد العيش الذي كانوا ينعمون به وبالتالي التطور الحضاري المصاحب له، والحق ما شهد به الأعداء؛ فقد ذكر المؤرخ الروماني بلينوس في القرن الأول الميلادي واصفاً حضارتهم وتجارتهم: «كسبت بلاد العرب نعت سعيدة لأنها فياضة بحاصلات يستعذبها أهل الترف ويباهون في اقتنائها جهازاً لموتاهم, ويضيف قائلاً: «تبتز الهند وقبائل سارا وعرب الجزيرة من أموال إمبراطوريتنا مبلغ مليون «ستريسة» في كل عام, وهذا أقل حساب, وتلك ثروة طائلة نبذرها على أهواء مترفينا ونسائنا»، وفي هذه المقولة دلالة عظيمة على مدى كِبر الأموال التي تصرف على تجارة روما مع شبه الجزيرة العربية، فلولا ضخامة التبادل التجاري لما اشتكى كتابهم من صرف هذه الأموال الطائلة التي عادت بالخير والمنفعة على الجزيرة العربية. ولنضرب مثالا آخر ومنتجاً لطفرة الطيوب والتوابل, ألا وهو مدينة جرهاء بالقرب من سواحل الخليج العربي, فقد أغدق عليها الكتاب الكلاسيكيون في الوصف والغناء وصفاً بلغ حد الخيال وهو دليل على عظم هذه الطفرة وعوائدها الاقتصادية على سكان الجزيرة العربية, فقد ذكر الكاتب الجغرافي اليوناني سترابو ما نصه في كتابه «الجغرافيا» عن طريق تجارة البخور أصبح تجار جرهاء أغنى القبائل وأصبح لديهم كميات كبيرة من المصنوعاتالمواد الذهبية
والفضية كالأرائك والركائز والأحواض وأواني الشرب, كما تميزت منازلهم بالعظمة فكانت الأبواب والجدران والأسقف تطعم بالعاج والذهب والفضة والأحجار الكريمة» فإن لم تكن هذه طفرة اقتصادية, فما هي الطفرة بل إنها أعظم طفراتنا الاقتصادية.
لنطوي صفحات السنين ونعبر لحقبة زمنية أخرى, فمن جزيرة العرب أشرق نور الإسلام ونشر حضارة عالمية, وصَاحَبَ هذه الحضارة نمو اقتصادي نتيجة لتوسع الدولة الإسلامية وزيادة مداخيلها, فعمَّ الرخاء في جميع أرجاء الدولة الأموية.
وفي أحد هذه الأقاليم, وأخص بالذكر اليمامة في قلب الجزيرة العربية بدأت طفرتنا الاقتصادية في عهد الدولة الأموية وظهر النمو الاقتصادي منذ الخطوات الأولى للتأسيس، ففي عهد معاوية بن أبي سفيان ونتيجة للازدهار الاقتصادي أرسل الخليفة عدداً كبيراً من الرقيق بلغ عددهم أربعة آلاف مع نسائهم وأولادهم فحملوا البذور والخبرة الزراعية معهم للعمل في مزارع اليمامة، وهذا العمل شبيه في عصرنا الحاضر باستيراد العمالة المدربة للمساعدة في نمو الدولة ولا يحدث هذا العمل إلا نتيجة طفرة اقتصادية. ولعله من الأدلة القاطعة على التغير الاقتصادي لولاية اليمامة الذي صاحب الدولة الأموية منذا نشأتها إلى سقوطها.
وكما يستشهد الاقتصاديون دوماً بالأرقام فهو المقياس البين لذلك النمو, فدونت مداخيل بيت المال بالأرقام, فقد ذكر اليعقوبي أن خراج اليمامة والبحرين في زمن معاوية بلغ خمسة عشر ألف درهم مقارنة بنهاية الدولة الأموية الذي بلغ خمسمائة ألف وعشرة آلاف دينار، وهذه أضعاف كثيرة وأموال طائلة تدل بلا شك على طفرة مالية عظيمة.
هذان مثالان لفترتين زمنيتين متباعدتين حظيتا بطفرات اقتصادية متباينة الأسباب، فالأولى نتيجة لعامل خارجي وحضارات محيطة بجزيرة العرب أثّرت وتأثرت بها، الثانية كانت نتيجة لتوسع الدولة وزيادات مداخيلها، اختلفت الأسباب والنتيجة واحدة, وعلى مر تاريخ الجزيرة العربية توالت عليها الطفرات الاقتصادية, فمرة زراعية تتبعها صناعية وثالثة تجارية، إلا أن المؤكد هو أن طفرة سبعينيات القرن المنصرم ليست الأولى، فهل حان الوقت لتصحيح مقولة «الطفرة الأولى».
- د.الوليد عبد الله العيدان