«الجزيرة» - خاص:
أوجبَ الإسلام طاعة الوالدين وبرَّهما، وتوقيرهما، ونهى عن عقوقهما، ولو بكلمة «أف».
لكن العقوق في هذه الأيام زاد بشكل لافت، لدرجة أن يضرب بعض الناس والديه، أو يرميهم في دور المسنّين. في المقابل، يحجم كثير من الآباء عن شكوى أبنائهم خشية تعرضهم للعقاب، في حين خالفهم آخرون بسبب تفاقم المشكلة. واستقبلت محاكم المملكة خلال العام الماضي (337) دعوى قدَّمها أمهات وآباء يشكون عقوق بناتهم وأبنائهم. ونظراً لخطورة عقوق الوالدين الذي يُعدّ من أعظم الكبائر، تطرح «الجزيرة» القضية أمام عدد من العلماء والمختصين.
قسوة القلب
بداية يؤكّد سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء أنّ عقوق الوالدين من كبائر الذنوب، مستشهداً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الإشراك بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»، وقال عليه الصلاة والسلام: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْه»، وقال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْعَاقُّ وَالِدَيْهِ، وَالدَّيُّوثُ، المسترجلة من النِّسَاءِ». وينبّه سماحته الشباب والفتيات قائلاً: «لنتقي الله في أنفسنا، وفي آبائنا وأمهاتنا، نجلس معهما لنقوم واجبنا نحوهما، وعليك أيها الأب وعليك أيتها الأم أن تفعلي السبب أيضاً فيما يعين ابنك على برك، ويعين الأبناء على بر أبيهم، فعلى الأب والأم أن يتخذوا الأسباب ما يكون سبباً لبر آبائهما إذا رأوا إكراماً من ابنك دعوا له واستغفروا له وشكروه وأثنوا عليه وقابلوه بالإحسان حتى تدوم الصلة وتقوي الروابط الخيرة».
ويحذِّر المفتي العام من العقوق وأنه قسوة للقلب وشقاء في الدنيا والآخرة ومحق للبركة والعمر والعمل والرزق. وقال إن البر سبب للخير والطمأنينة والسكينة والخير العظيم مستشهداً بحديثه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، ويُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَصِلْ ذا رَحِمَهُ»، معتبراً أن رحم أعظم من الآباء والأمهات ويقول صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أحرى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْي وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»، وأي قطعة رحم أعظم من عقوق الآباء والأمهات.
ويتساءل سماحته: «كيف يرضى المسلم لأبويه أن يلقيهما ويضعهما في المستشفيات حتى يموتا، أو في دار العجزة والمسنين سئماً منهما وما بدر منهما؟»، ويضيف: «ألا تذكر أمك وبرها بك وإحسانها إليك أيام الوحم والحمل والولادة والإرضاع والحضانة والقيام بالواجب؟ أتنسى تلك الليالي الماضية والأيام الغابرة؟»، معتبراً أن الأم «لو خيرت بين حياتها وحياتك لاختارت حياتك على حياتها وراحتك على راحتها، فكيف تعاملها بالإساءة، وكف القول وغلظ القول والجفاء؟ إنها قسوة للقلب وشقاوة في الدنيا والآخرة».
حقوق الوالدين
ويشير الشيخ علي الحذيفي إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف أن كثرة عقوق الوالدين من أشراط الساعة؛ لما جاء في الحديث الشريف: «يكون المطر قيظاً، والولد غيظاً، ويفيض الأشرار فيضاً، ويغيض الأخيار غيضاً»، واصفاً تحويل الآباء إلى دار المسنين من أعظم العقوق، وإخراجهما من رعاية الولد والعياذ بالله. وقال الحذيفي إن هذه ليست من أخلاق الإسلام ولا من الشهامة والمروءة. كما أشار الشيخ الحذيفي إلى أن التكبر على الوالدين، والاعتداء عليهما بالضرب والإهانة والشتم والحرمان من العقوق؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجنة يوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام، ولا يجد ريحها عاقّ) رواه الطبراني. ويعتبر الحذيفي أنّ أعظم الحقوق، بعد حق الله ورسوله، حقوق الوالدين، وإن الله قرن حقه بحقهما؛ فقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. ويكمل الحذيفي أن الله تعالى «قد عظّم حق الوالدين؛ لأنه أوجدك وخلقك بهما والأم وجدت في مراحل الحمل أعظم المشقات، وأشرفت في الوضع على الهلاك، والأب يرعى ويربي ويسعى لرزق الولد، ويعاني من الأمراض؛ فيسهر الوالدان لينام الولد، ويتعبان ليستريح، ويضيّقان على أنفسهما ليوسعا عليه، ويعلّمانه ليكمل ويستقيم، ويحبانه أن يكون أحسن منهما؛ فلا عجب من كثرة الوصية للوالدين ولا عجب من الوعيد لعقوقهما».
ويصف الحذيفي الوالدان بأنهما بابان من أبواب الجنة، مَن برهما دخلها؛ مذكراً بالحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رَغِمَ أنفه، رَغِمَ أنفه»، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة».
الوازع الديني
من جهته، يؤكد المهندس عبدالعزيز حنفي رئيس جمعية (خيركم) بجدة أن الخروج من هذه المعضلة التربوية لا يكون إلا بمواصلة تربية الناشئة على كتاب الله وسنة رسوله الكريم، بما يحفظ حقوق الوالدين. ويضيف حنفي أن تكثيف الجرعات التربوية والإيمانية التي تهذب السلوك وتوجد لدى الفرد معياراً للتعامل مع والديه، مع إيضاح صور عديدة من التصرفات والأفعال التي تعتبر من باب العقوق، مثل نهرهما والعبوس أمامهما وترك الإصغاء إليهما، وتفضيل الزوج أو الزوجة عليهما، والتخلي عنهما في حالة العجز وكبر السّن، لأن ضعف الوازع الديني والانحراف السلوكي والخلقي وتعاطي المخدرات من أبرز أسباب عقوق الوالدين.
وقال حنفي إن العلاج يكون بإزالة الأسباب جذرياً عن طريق التربية الدينية والخلقية والسلوكية، وإبرار الجوانب التي تمثل بر الوالدين مثل طاعة الوالدين والتبسم أمامهما ومساعدتهما في الأعمال، وكثرة الدعاء لهما، وغير ذلك كثير، فأبواب الخير والإحسان لهما كثيرة يصعب حصرها، كما أن الاسترشاد بالأمثلة في تربية الأبناء والبنات يوضح تعامل سلفنا الصالح مع والديهم، فمثل هذه القصص لها تأثير واضح وراسخ في عقول الناشئة