لا يشكك أحد في أن التعليم العام هو حجر الأساس لبناء المجتمع وهو نقطة الانطلاق لتشكيل المستقبل، تتكون فيه الشخصية وتكتسب المعارف والأخلاق. أهم ما تقدّمه الأمم لنفسها وللعالم هو التنشئة السليمة الفعّالة لصغارها وإعدادهم ليحافظوا على ما اكتسبه مَن قبلهم وليحملوا مجتمعهم إلى أفضل مما هو عليه.
في عالمنا الحديث بكل ما يحمله من تنافس وتدافع وانفتاح على بعضه وسهولة نقل الأفكار والثقافات الصالح منها وغير الصالح ما زلنا نقف مكتوفي الأيدي ننظر باستغراب إلى قلة كفاءة أجهزتنا التعليمية والتربوية وضعف نتاجها وفقداننا التدريجي لهويتنا.
النشء في أي مجتمع يتأثر بطبيعة الحال بمن حوله. في زماننا هذا يتأثرون بوالديهم وعائلتهم المباشرة، بمجتمعهم المدرسي، بالمجتمع العام، حيث يعيشون، وأخيراً بسبب الوسائل الحديثة للتواصل ونقل المعلومات والأفكار أصبحوا يتأثرون بكل ما يمكن أن يضعوا أيديهم عليهم من نتاج العالم. يزداد عظم التأثير وترسخه كلما ضيقنا الدائرة: فأثر الوالدين مثلاً أكثر وقعاً من ما قد يعرض على صفحة في الإنترنت، وتصرف المعلم ذو وزن أكبر من أي غريب قد يتواصل عن بعد. النشء يكتسبون الأدوات الفكرية والمهارية التي يتعاملون بها مع العالم من مجمل التجارب التي يمرون بها قبل نضوجهم، فما هو دورنا كمربين لهم؟ كيف نساهم في إكسابهم الأدوات السليمة حتى يتمكنوا من مجابهة المستقبل والمرور خلال الحياة بثقة وثبات؟ في اعتقادي يجب أن يُعلموا ثلاثة أمور: الثوابت العقائدية والفكرية التي تحكم منطقهم وتفكيرهم وتمكنهم من التعامل مع الأفكار والطروحات، الأخلاقيات المستقاة من تلك الثوابت التي تزرع فيهم الضوابط وتحكم تصرفاتهم وتعاملاتهم، ووسائل التعلم واكتساب المعرفة التي تمكنهم من التطور والتطوير.
الصغار يولدون بصفات خَلقية مختلفة وقدرات كامنه تظهر وتنمى خلال طفولتهم ويستمر صقلها طوال حياتهم، إن كانت المؤثرات من حولهم إيجابية والتجارب التي يمرون بها بناءة ظهر فيهم العالم والباحث والمفكر والمهني والفنان والقائد، وإن كانت غير ذلك أهدرت الصفات وتلاشت القدرات.
التعليم المؤسسي العام يتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية تجاه تنشئة الصغار ومنحهم الأدوات السابقة، وقد يكون تأثيره أعظم من تأثير العائلة، حيث إن الصغير يقضي أغلب يومه داخل أسوار مدرسته مع معلميه وأقرانه، لكن واقعنا يدل على أن فاقد الشيء لا يعطيه: كيف نستغرب أن نتاجنا دون أملنا ونحن لم نبذل السبل السليمة لتحسينه؟ حين تكون هناك عدة توجهات وخطط للتعليم خلال أقل من عشرين عاماً ويوكل وضعها وتنفيذها لمن هم ليسوا أهلاً لها، حين يفتقد المعلم للتأهيل المناسب، حين تمر على الطلاب أسابيع دون معلم لمادة ما، حين يكون الهدف تجهيز الطلاب لاجتياز الاختبارات دون الالتفات للفائدة من العلم، وحين تغيب التربية عن التعليم فمن الحماقة أن نستنكر سوء النتائج.
التعليم أكبر من النزوات والميول، يوجهه زيد نحو الشمال ثم يأتي عمرو ويديره للجنوب. التعليم بحاجة لسياسة ثابتة يضعها أهل اختصاص ودراية لا يأبهون بالميول ولا ينجرفون مع التيارات ويعلمون حقيقته ومأربه، سياسات تأتي ثمارها بعد الكثير والكثير من السنوات من العمل والكد والإخلاص والثبات دون انتظار الشكر والثناء. لا تصح مناقشة الهوامش حين يكون البناء متصدعاً، تعليمنا العام بحاجة إلى ثورة تغيّر كل ما هو عليه.
لو جردنا التعليم إلى أبسط صوره سنجد أنه العلاقة بين الأستاذ والطالب والمنهج. المنهج أمره يسير؛ فهناك من هم أكثر علماً وخبرة منا قاموا بكتابته بعد بحث ودراسة وتجربة.الطالب هو ذاته في أي مكان في العالم، لوحة بيضاء تقبل كل ما يكتب عليها تسمع وتنفذ. أما المعلم فهو المشكلة، من شبَّ على شيء شاب عليه والمعلم لدينا مثله مثل غيره من موظفي القطاع العام شبوا على عدم الإتقان وانعدام المحاسبة وضعف المردود المالي، الجيد منهم لا يميز عن السيئ فيستسلم ويسلك مسلكه. لو أخذنا مثال فنلندا أحد أنجح الدول في المجال ونظرنا إلى معلميها نجد أنهم يحملون نفس المكانة التي يحملها الطبيب أو المهندس لأنهم يبذلون نفس المجهود ليصلوا لمكانتهم ويعملوا في بيئة مشابهة لهم من حيث الإمكانات والتجهيز كما يحصلون على رواتب مشابهة لهم. أليس بإمكاننا تطبيق هذا النموذج؟ بعد دمج وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي زالت الكثير من العوائق التي تجعل التكامل بينهما ممكناً، تجب إعادة النظر في المسار الذي يأخذه الشخص حتى يصبح معلماً والكفاءات الواجبة توفرها فيه.
لو وسعنا الدائرة عن المعلم والطالب والمنهج سنجد أنهم جميعاً محكومون بسياسات وإجراءات تنظّم عملهم وتقيس إنتاجهم فما هو السبيل لتكون بناءة وداعمة؟ بالبدء لا بد من تصور واضح للغرض من التعليم في ضوء ثقافتنا وهويتنا والهدف الذي تسير إليه بلادنا والمستقبل المرسوم لها. بعدها تبلور سياسة تبيّن أهدافه وأسلوبه ومخرجاته وتطبيقه وطبيعة من يعملون عليه على أن تنقش في الحجر ليسير عليها من سيعملون على تنفيذها حتى لو تغيّروا ولكي لا تبدل أو تأول حسب الأهواء أو الميول أو المصالح.
حين يتغيّر المنهج الدراسي كل بضع سنوات وتصرف الملايين على شركات الاستشارات وكأن الجهاز التعليمي يتكون من هواة، حين ينكمش العام الدراسي من 36 أسبوعاً إلى ثلاثة أرباعها ويكون رجاء المعلم وولي الأمر تعليق الدراسة كلما ظهرت سحب في السماء، حين يكون المعلم أضعف حلقة في سلسلة التعليم، وحين يسند الأمر إلى غير أهله فمن الصعب والصعب جداً التفاؤل.