نواصل ترجمتنا لتحليل اجتماعي-سياسي نوعي بقلم البروفيسورة دانييلا بيوبي. والبروفيسورة دانييلا بيوبي هي زميل أول مشارك في معهد الشؤون الدولية في روما، وزميل باحث مؤقت في جامعة روما «لا سابينزا». ونشرت الورقة في ديسمبر 2013.
وعندما أُعلن أخيرا عن فوز مرسي بالرئاسة، كانت سلطاته مقيدة بشدة، واستغرق الأمر حتى منتصف أغسطس ليتم التوصل إلى صفقة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمين لإلغاء إعلان يونيو الدستوري المكمل. (30) وفي الواقع، قام مرسي في 12 أغسطس بإقالة رؤساء أجهزة الاستخبارات العامة والاستخبارات العسكرية، فضلا عن أربعة من أبرز أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة (ومن ضمنهم المشير محمد حسين طنطاوي، قائد القوات المسلحة ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة)؛ وهو ما وصفته وسائل الإعلام بـ«انقلاب مرسي». ومن المرجح أن قرار مرسي كان بالاتفاق مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو ربما – وهو الأهم – مع فصيل قوي داخل القوات المسلحة بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي؛ وهو فصيل يمثل جيل الوسط من الضباط الساخطين من سيطرة طنطاوي، تلميذ مبارك، وزملائه العجائز لعقود طويلة على القوات المسلحة وتأخر ترقيات الجنرالات الشباب. (31) ومن الصعب التخمين حول النوايا الحقيقية للقوات المسلحة في ذلك الوقت. وربما اعتقدت الجماعة أو جُعلت تعتقد بأن القيادة الجديدة للقوات المسلحة كانت مهتمة بحماية قوتها وامتيازاتها دون التورط في فخ السلطة وتسيير الأمور اليومية في البلد، وكانت تأمل أن هذا الترتيب يمكن أن يكون أساسا كافيا لشراكة دائمة في السلطة؛ ولكن الأحداث التي تلت ذلك أثبتت أن هذه الحسابات كانت خاطئة تماما.
المرحلة التي قادتها جماعة الإخوان المسلمين
(أغسطس 2012-يوليو 2013)
أدى «انقلاب مرسي»، في أغسطس 2012، إلى دخول مرحلة جديدة من عملية التحول السياسي المصري التي يمكن أن يقال فيها إن الجماعة/حزب الحرية والعدالة تحكم البلاد؛ ولكن مع وجود الكثير من القيود والشكوك القوية. تولى مرسي الرئاسة، وكان مجلس الشورى (32) والجمعية التأسيسية لوضع الدستور المنتخبة من قبل البرلمان المنحل يعملان تحت تهديد حل محتمل ومنتظر بحكم من المحكمة الدستورية العليا لعدم دستوريتهما؛ وهو وضع خطير بأي مقياس من المقاييس، نظرا لخطر وقوع ابتزاز أو تدخل خارجي عام في صياغة دستور البلد المستقبلي. (33) أكثر من ذلك، لم تتعرض وزارات الدولة ومؤسساتها (وخاصة وزارة الداخلية وجهاز القضاء) لأي إصلاح «ثوري» بأي معنى مقبول لكلمة «إصلاح». وكانت طبيعة تلك المؤسسات متأثرة ومشكّلة من إرث عقود من الحكم الاستبدادي، ومليئة برجال (ونساء) موالين للنظام السابق وحريصين على استمرار الامتيازات والمناصب وغير راغبين في التنازل عن السلطة للقادمين الجدد.
الجماعة تواصل استعمال
سياسات نظام مبارك «النيوليبرالية»!!
وفي الواقع، أصبحت الجماعة/حزب الحرية والعدالة في موقف محرج ولا تحسد عليه كسلطة حاكمة نظرا لتفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد. وزادت عملية الانتقال والتحول في السلطة التي اتسمت بالغموض من سوء حالة البلد مع وجود عجز هائل في الميزانية، وتفكك البنية التحتية، وارتفاع البطالة، وتراجع مرعب لاحتياطيات العملة الأجنبية. وكان الحل السريع والمختصر، الذي لجأت إليه الجماعة/حزب الحرية والعدالة والذي يتمثل في إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض، يعد مخاطرة قاتلة؛ لأنه يفتح الطريق لمزيد من الاقتراض من الخارج، كما أنه يمثل استمرار سياسات النظام السابق النيوليبرالية بل ومفاقمتها. والأهم من ذلك كله هو أن القرض سينتج عنه تنفيذ إجراءات وتدابير غير شعبية جدا، مثل تقليص أو إلغاء دعم بعض السلع التي يعتمد عليها السكان في معيشتهم. (34)
وأُعلن عن ما وصفته الصحافة بـ«حكومة مرسي» في 2 أغسطس 2012 (أي قبل بضعة أيام فقط من «انقلاب مرسي». ومن ثَمَّ، كان تحت الإشراف الكامل للمجلس الأعلى للقوات المسلحة)، برئاسة هشام قنديل، وهو مقرب من الإخوان ولكنه ليس عضوا في الجماعة. وحصلت الجماعة/حزب الحرية والعدالة على 5 وزارات من مجموع 36 وزارة (التعليم العالي والشباب والإسكان والإعلام والقوى العاملة). وتعد جميعها وزارات هامشية «نسبيا»، ولا تكاد تكفي لتنفيذ برنامج الجماعة/حزب الحرية والعدالة. ومثل حكومات المجلس العسكري السابقة، ترأس تكنوقراط أو مسؤولون من النظام السابق معظم الوزارات. (35) وعكست تركيبة الحكومة، بوضوح، ديناميات القوة في البلاد. (36) وفي هذه الحالة، لم يكن من الممكن أن تكون أولوية الجماعة أن تحكم البلاد (ليس الآن!)؛ ولكن بدلا من ذلك توطيد سلطتها تحت دستور جديد وانتخابات برلمانية جديدة والتي كان مقررا إجراؤها في أقرب وقت ممكن.
أهم عقبة حقيقية أمام الجماعة:
عدم استعدادها وعدم جاهزيتها للحكم
وواجهت الجماعة، عند تنفيذ هذه الإستراتيجية، مقاومة ليس فقط من مؤسسات الدولة وعناصر النظام السابق؛ ولكن أيضا مشاكل من داخلها. وكان أولاها عدم استعدادها وجاهزيتها للحكم؛ ففي عهد مبارك، لم تتوقع الجماعة الوصول إلى السلطة، ولم تعد نفسها لتحكم وتعمل كحزب حاكم. ومثل جميع القوى السياسية الأخرى، كان البرنامج السياسي لجماعة الإخوان المسلمين غامضا جدا، وكانت لا تملك إداريين متمرسين ورجال دولة محنكين وخبيرين. (37) ولم تمنح الوتيرة الصاخبة للأحداث، بعد عام 2011، سوى القليل من الوقت لوضع خطة لحكومة صلبة أو لتدريب كوادر جديدة. (38) أكثر من ذلك، أدت تجربة الجماعة العملية الطويلة تحت حكم أنظمة استبدادية متعاقبة إلى برمجتها لتعمل بصورة مثلى كمنظمة سرية تعتمد فقط على أعضاء مخلصين وتشتغل بمنهج تشوبه الريبة (البارانويا) للتعامل مع الكوادر والأعضاء الجدد. (39) ولم يسهم غموض المشهد السياسي، خلال مرحلة ما بعد مبارك الانتقالية، في تغيير أساليب عمل الجماعة الداخلية، وخاصة عملية صنع القرار بطريقة غير شفافة ومن قبل مجموعة محدودة جدا من أعضاء مكتب الإرشاد الذين يفرضون إرادتهم على الأعضاء الخاضعين لـ«مبدأ السمع والطاعة» وعلى الذراع السياسي للإخوان المسلمين، حزب الحرية والعدالة. وأخيرا، بزغ الشك والهلع في الدوائر غير الإسلاموية من حكم الجماعة بسبب ميل الجماعة الواضح إلى السيطرة على جميع مؤسسات الحكم؛ نظرا لتفوق قاعدتها الاجتماعية وقدراتها التنظيمية نسبيا مقارنة بغيرها.
وبالرغم من تلك المخاوف، فقد صَوَّتَ، في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، العديد من الليبراليين وغير الإسلامويين لمرسي ضد مرشح النظام القديم؛ ولكن الوضع تدهور بسرعة في خريف عام 2012. وخلافا لعملية تقاسم السلطة الأكثر نجاحا نسبيا التي نفذها حزب النهضة في تونس، لم تحاول الجماعة، مجرد محاولة، التواصل مع المجتمع المدني والسياسي المصري الأوسع، كما اتضح بشكل جيد عبر هيمنة الإسلامويين «المتغطرسين» على الهيئة التأسيسية لوضع الدستور وعدم رغبتهم في قبول إدخال غير الإسلامويين فيها. (40) وسهّل هذا السلوك العدائي تحويلهم إلى كبش فداء، بحجة كونهم سبب كل مشاكل البلاد؛ وهو ما زاد من شعور العزلة التي وجدت الجماعة/حزب الحرية والعدالة نفسها فيه عندما حاولت كسر الجمود السياسي في المرحلة الانتقالية.
مرسي يحكم كفرعون مستبد
ويصدر إعلانا دستوريا كارثيا
وبعد وساطة ناجحة قامت بها الجماعة بين حماس وإسرائيل في الـ22 من نوفمبر 2012، والتي منحت الجماعة إشادة دولية (وخاصة من الولايات المتحدة!)؛ أصدر مرسي، في خطوة مفاجئة، إعلانا دستوريا كارثيا. أقال الإعلان الدستوري النائب العام المعين من قبل مبارك والذي لا يحظى بشعبية؛ وهو ما مهّد الطريق لإعادة محاكمة مسؤولين حصلوا مؤخرا على البراءة من التورط في أعمال عنف ضد المتظاهرين، ومنع حل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور، ومدّ فترة عمل الجمعية التأسيسية لمدة شهرين. والأهم هو أنه حَصَّنَ كل القرارات الرئاسية من الطعن عليها، حتى اعتماد الدستور الجديد. (41)
ولم يأت هذا الإعلان من فراغ؛ فالعملية الانتقالية طالت لمدة سنتين تقريبا، وبدت على وشك الانهيار. وكما ذكرنا آنفا، فقد جرى حل مجلس الشعب المنتخب ديمقراطيا بقرار من المحكمة الدستورية العليا، وكانت هناك تخمينات وشائعات قوية بحل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية لوضع الدستور؛ وهو ما سيدخل البلد في فوضى ونفق مظلم. وموازة مع كل تلك الأحداث، فقد كانت هناك مخاطر أخرى أكثر إثارة للقلق؛ فقد ساد اعتقاد بأن المحكمة الدستورية العليا كانت تستعد لإصدار حكم يعيد العمل بالإعلان الدستوري، الذي أصدره المجلس العسكري في يونيو 2012 والذي منح المجلس العسكري سلطات تشريعية وتنفيذية لم يسبق لها مثيل. (42) ولو حدث ذلك، فستصبح جميع قرارات مرسي التي تلته لاغية وباطلة نظريا. (43)
وبالرغم من كل هذه الأعذار، فإن الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي أثار، فوريا بالفعل، غضبا واسع النطاق؛ على الأقل لأنه خرج بطريقة – إذا استعملنا وصفا لطيفا –»خرقاء« سياسيا، حيث جرت صياغته صياغة رديئة. والأخطر هو أنه خرج إلى الوجود بدون التشاور مع القوى غير الإسلاموية الأخرى التي كانت تطالب أيضا، على سبيل المثال، بعزل النائب العام ومحاكمة مسؤولي النظام السابق؛ ولكنها كانت تشك في »الميول الاستبدادية« للإخوان المسلمين. وبناء عليه ، اتحدت القوى غير الإسلاموية، للمرة الأولى منذ عام 2011، في منبر لمناهضة سلطة الإخوان. ودشنت تلك القوى »جبهة الإنقاذ الوطني«، بقيادة ثلاث شخصيات رئيسة في المعارضة (محمد البرادعي وحمدين صباحي وعمرو موسى)، بهدف إلغاء الإعلان الدستوري وتشكيل جمعية تأسيسية أكثر تمثيلا للمجتمع المصري. وفي الأسابيع التالية، خرجت مظاهرات كثيرة ضد مرسي في جميع المدن الرئيسة في البلاد، وتعرضت مقرات الجماعة/ حزب الحرية والعدالة للهجوم والتدمير من قبل مجهولين. وكان حجم موجة الاحتجاج ونمطها يشيران، ضمنيا، إلى وجود تكتيكات مماثلة لنمط الحزب الوطني المنحل (مثل استعمال البلطجية) للتعبير عن »استياء الناس« مع تقاعس ملحوظ من قوى الأمن الداخلي. وجرت أسوأ الحوادث يومي 4 و5 ديسمبر أمام القصر الرئاسي، مع وجود الشرطة أثناء تقاتل المتظاهرين، مع ما زُعِمَ أنها «ميليشا» الإخوان. (44) وكان من الواضح أن النزاع السياسي يختلف اختلافا جذريا عن حالة الفرح والطموح التي سادت المشهد بعد فوز مرسي في الصيف. وأدت زيادة الاستقطاب إلى معركة مفتوحة بين الجماعة/حزب الحرية والعدالة وبين قوى المعارضة.
يتبع
- ترجمة وتعليق/ حمد العيسى
hamad.aleisa@gmail.com