الثقافية - حمد الدريهم:
بالرغم من هذا اللهيب الحارق بالحروب والأزمات والخانق بالصراعات الطائفية والإثنية في عالمنا العربي المأزوم، برزت مؤخراً المواقع الفكرية والثقافية التفاعلية الجديدة التي تتميز بجودة موادها الفكرية والثقافية وسهولة وصولها وترويجها للمتلقي عبر وسائط الإعلام الجديد، ما مدى تأثير وفعالية الدور التنويري والثقافي لتلك المواقع؟ وهل لها فعالية في تكوين المثقف العربي الناشئ، وما تأثيرها على واقع الأدب العربي؟ وهل ستستمر طويلاً أم أنها ضمن سلسلة الظواهر التقنية الإلكترونية التي مرت في عالمنا العربي؟ ويبقى السؤال الأهم والأكبر، هل ستسهم في ولادة عصر عربي جديد؟
لأجل الإجابة على تلك الأسئلة، «الثقافية» طرحت تلك الأسئلة على بعض أصحاب تلك المواقع ومن هو مهتم بالفكر والثقافة فكانت إجاباتهم:
منيرة الغدير: لن نستطيع سبر ما يخبئه المستقبل لهذه الوسائط التقنية
لغياب تدريس الفلسفة المنهجي في أغلب الجامعات العربية ما عدا القليل في شمال أفريقيا ولبنان، نجد أن الحاجة أكثر إلحاحاً لإنشاء وتطوير مواقع تنشر وتترجم المقالات الفلسفية والمعرفية بالعربية وربما قد تتطور إلى حلقات نقاشية وبحثية تسهم في تطوير ونشر هذا الجزء المعرفي الذي يعاني من تهميش ربما له أبعاد أيديولوجية أو لصعوبة السؤال الفلسفي. الفلسفة تحاور كل تطور وتجعلنا نفكر فيه، فلم نتردد في أن نراها في فضاء الإنترنت اللا محدود الذي يشبه تلافيف أسئلتها المتشبثة بالمعرفة؟ أو أن نعتقد أنها تقنية من عصر سحيق؛ إن الفلسفة طرحت أسئلة عن التكنولوجيا مثل هايدغر وعن الإنترنت والتلفاز مثل دريدا، بودريارد، باديو، وجيجك، لكن السؤال قد يكون، كما تفضلت عن تأثير المواقع العربية وديموميتها، وهل ستنشر الفكر الفلسفي وتحقق له مقروئية أكثر؛ ربما لا وذلك لأن الفلسفة في جانب معتم في السياقات العربية المعاصرة لكن الإصرار على وجودها والاستمرار على العمل الفلسفي سيؤتي بنتائج مستقبلية، لأن التغيير الفكري بطئ ويتطلب طول النفس ومثابرة لا تمل.
أما عن إسهامها في «ولادة عصر عربي جديد» كما ذكرت، أعتقد أن هذه المواقع جزء من هذا العصر الجديد والسؤال هو كيف يوظف ويتفاعل الإنسان العربي مع هذه الثورات التقنية؟ هل سيسهم في تطويرها والاستفادة منها؟ أم أنه سيقع فريسة لعصر التسليع المعمم؟
طبعاً الوضع مختلف إلى حد ما في الغرب. قبل وجود المواقع التي تُعنى بالفلسفة على الإنترنت، كان هناك محاضرات على مواقع الجامعات المرموقة في العالم لصفوف الفلسفة وغيرها من التخصصات. فمثلاً جامعة ييل، هارفارد، بيركلي وأكسفورد وكامبريدج وغيرها أتاحت صفوفاً فلسفية على الإنترنت إيماناً منها بنشر المعرفة وإيصالها لمن لا يستطيع أن يتحمل رسوم التسجيل في هذه الجامعات أو لم يستطع الالتحاق بها. ثم تطور هذا لتصل هذه الصفوف إلى وسائط تقنية جديدة مثل اليوتيوب. ونرى أن للجامعة الأوربية في سويسرا موقعًا على اليوتيوب وفيه كل محاضرات الفلاسفة والمفكرين الذين يدرسون حلقات فلسفية فيها.
ولدينا موقع (رواق) وهو مشروع فيه الكثير من الإتقان والتنوع الفريد وبمجهود متميز من فؤاد الفرحان وسامي الحصين حصلنا على سلسلة من المحاضرات والصفوف في مجالات متعددة. مثل هذا المجهود بحاجة إلى دعم الأفراد والمؤسسات لكي يتطور ويستمر لأن رؤيته رائدة في العالم العربي.
أيضاً حقق موقع (حكمة) الكثير في وقت وجيز وخاصة في استقطاب المفكرين والمترجمين، بعضهم من السعودية لنشر النصوص الفلسفية والفكرية، وكل هذا جهد تطوعي هائل حسب ما فهمت وبإدارة الدكتور يوسف الصمعان. موقع (حكمة) في تطور مذهل وفي وقت قصير نشر مقالات وأطروحات نظرية وفلسفية مهمة بالنسبة للقارئ العربي. لربما أن ما تعيشه الفلسفة أمام هذه الثورات التقنية هو حث أسئلتها الأولى على التجدد وتأمل ما يحدث للعالم والإنسان واللغة. لا أعتقد أن الفلسفة في حالة سرنمة بل الفلاسفة يقتفون أثر أسئلتها الأولى في هذا الفضاء المنفتح على المعنى الذي يشطر مفهوم الحقيقة مرات بلا دوار أو تعب. إن هذا الوسيط الإلكتروني (الإنترنت) ليس رافضاً للأطروحات الفلسفية بل سأقول: إنه يتماهى مع طياتها الفكرية حتى عتبات الديمومة، فلا زمن يستطيع إيقاف هذا التقاطع. إنه اختبار لما تفوهت به الفلسفة وخاصة أطروحاتها في القرن العشرين؛ الفلسفة مستقبلية مثل الفهم تماماً كما، علمنا نيتشه، فهو مرتبط بالمستقبل وسيصل فيما بعد.
خذ على سبيل المثال، لو حاولنا تفسير هذا الصغير المتمرد، تويتر لجمعنا معاني وتأملات متعددة وكأن كل تغريدة تعيد صياغة معناه لتجعلنا في لاقتفاء الأثر بلا توقف، أليس هذا فضاء لأسئلة فلسفية عن اللغة، الآخر، المعنى، الحقيقة، الخ؟
مهمة الفيلسوف إذاً ليست جامدة ومتوقفة على زمن ما، أو حقبة معينة. أنظر لسفر النصوص الفلسفية منذ الإغريق وحتى الآن، إن الفيلسوف يختبر الحقيقة في هذا الفضاء التقني ولن نستطيع سبر ما يخبئه المستقبل لهذه الوسائط التقنية، الكثير يعرف أننا نعيش مرحلة يسبق فيها التجديد كل ما كنا نحلم به.
يحيى القيسي: دور الثقافة هو الإعمار في وقت الدمار، وبث الأمل في وقت القنوط
لا شك أن العصر الرقمي الذي نشهده اليوم بحاجة إلى مواكبة حقيقية من أجل الاستفادة من الانتشار الهائل له والقدرة على الوصول إلى المتلقين في كل مكان، ذلك لا يمكن أن توفره المجلات الورقية والصحف، ولهذا فإن إنشاء موقع ثقافي ينشغل بالفكر والفنون والإبداع بشكل راقٍ، وينشر على مدار الساعة مواده المتجددة مسألة حيوية اليوم.
لقد حرصنا على إطلاق الموقع في شهر سبتمبر 2012م في الوقت الذي كان العرب ينشغلون بقتل بعضهم بعضًا وبتدمير المقدرات التي بنوها عبر آلاف السنين وأيضًا في نشر ثقافة الكراهية والتطرف، فيما كان العالم نفسه حينها واقعًا تحت خرافة نهاية الكون ونبوءات «المايا «، ولهذا فقد جاء «ثقافات» كموقع احترافي للثقافة الرزينة التي تحترم الإنسان، وتعلي من شأن الحياة، وتنشر ثقافة التفاؤل الإيجابية والسلام والمحبة والنور بدل كل هذا الضخ الهائل للطاقات السلبية وللتطرف..!
إن دور الثقافة هو الإعمار في وقت الدمار، وبث الأمل في وقت القنوط، ومقاومة دعاة الموت، ولكن للأسف ليست في ضمن أولويات الحكومات العربية ولا حتى المؤسسات الخاصة، ولهذا يظل الجهد الفردي الثقافي بحاجة إلى الدعم حتى يواصل دوره، وأعتقد أن جهدنا الخاص في الموقع وحماس المحررين والمتعاونين معنا قد آتى أكله، وبالتالي زاد عدد المتابعين للموقع عبر صفحة الفيس بوك فقط إلى نحو 124 ألف معجب، ناهيك أن الكثير من المواد في ثقافات حققت قراءات عالية جدًا قياسًا الى المواقع الثقافية العربية. آمل أن نجد الدعم المعنوي على الأقل من القارئ العربي للمواصلة معنا حتى نستمر في دورنا بكل حرفية وتميز.
سامي الحصين : العصر العربي الجديد ولد منذ عدة أعوام ولكنه ما زال طفلاً
لا شك أن كثيرًا من الصراعات الطائفية والحروب المدمرة للجهل منها نصيب. ويتأكد ذلك مع ملاحظة الاستقرار النسبي في تونس مقارنة بالدول الأخرى التي شهدت ربيعًا عربيًا، وتونس تعتبر من أكثر الشعوب العربية ثقافة، مما أسهم في جعل ربيعها الأقل دموية وانتقال السلطة ديمقراطيًا سلسًا. ومن المعروف أن أساتذة الجامعات هم عادة من يقاومون الحروب، والاعتراضات على حرب فيتنام كان منطلقها الجامعات.
«لا يريد الناس الحرب، ولكن يمكنهم الموافقة دائمًا على مخاطرات القادة. هذا سهل. كل ما عليك فعله هو إخبارهم أنهم تعرضوا لهجوم، ثم قم بإدانة دعاة التهدئة واتهمهم بعدم الوطنية وتعريض البلاد للخطر. حل سحري، ينجح في جميع البلدان.» - هيرمان جورينج.
إن أي مادة يقرأها المرء لا بد أن يكون لها أثر عليه يزيد أو ينقص، حسب جودة المادة وحجمها. والمواقع الثقافية التي ظهرت تسعى لتوفير المعرفة وبناء الثقافة التي تسهم في إيصال المعلومة الصحيحة ومحاربة الجهل. ولا شك أن العلم يبني الحضارة، وقد استلهمنا اسم «رواق» من أروقة العلم في الأندلس في أوج الحضارة الإسلامية. إنها لا تكتفي بتزويده بالعلم والمعرفة، بل تزوده بوسائل البحث والتحقق، وتمنحه الثقة للوصول لاستنتاجاته المستقلة. كما أنها تثير فضوله نحو العلوم مما يسهم في توظيف طاقته فيما هو مفيد له وللإنسانية.
والعلم والمعرفة شيء تراكمي، يبنى عليه معرفة الإنسان والأجيال القادمة. والتقنية تغير أسلوب حياتنا بشكل جذري وللأبد. فما عاد الوصول للمعلومة حكرًا على أحد فالكتب والمعرفة متوفرة في العالم السيبري الذي يصل له الجميع من خلال الأجهزة الذكية التي تتناقض تكلفتها يومًا بعد يوم، وما عاد الحصول على التعليم العالي محصورًا في أعداد قليلة تقبلها الجامعات بشروط معقدة بل أصبحت مواد أشهر الجامعات العالمية متوفرة مجانًا على الإنترنت.
إن مصطلحات مثل شروط القبول وسعة الشعبة وشهادات معتمدة تفقد معناها يومًا بعد يوم, وقريبًا تشطب من القاموس. حتى حواجز اللغة بدأت تتلاشى مع الترجمة الآلية. وسوق العمل تغير فكثير من المهن تتلاشى ويتوقع بحلول العام 2025 أن تختفي 62 % من الوظائف التقليدية في الولايات المتحدة الأمريكية لتحل محلها وظائف تلائم العصر الرقمي.
والعصر العربي الجديد ولد منذ عدة أعوام ولكنه ما زال طفلاً يترنح في مشيه ويحبو أحيانًا ولما زال يتعلم لغته الجديدة للتواصل مع العالم المحيط به، يحتاج إلى دورته الطبيعية ليصل مرحلة النضج ولا مجال لتسريعها وإلا كان رجلاً مكتملاً بدنيًا ناقصًا فكريًا.
شيخة البهاويد: تستمر هذه المواقع بمدى استمرارية جوع العربي للمعرفة
هناك دور كبير تلعبه المواقع الثقافية اليوم لما لها من قدرة على الوصول لكافة الشرائح وبأبسط الوسائل التي تتوفر في الأيدي بسهولة, ثورة فكرية صنعتها هذه المواقع لما تقدمه من أطروحات في كثير منها الجرأة والفائدة والدقة.
ونعتقد أن لها دورًا في تكوين المثقف العربي الناشئ, لأنها تسمح له بالاطلاع على ما قد لا يتمكن من الوصول إليه, بالإضافة إلى تحفيزه ذهنياً وإيصاله إلى منابع معرفية ضخمة, هذا إذا ما أضفنا الترجمات من اللغات العالمية التي تسهم بتوسيع مداركه, كما تسهم هذه المواقع في تشكيل عقلية غير جامدة لا تكون صندوق معلومات بقدر ما هي موج يتحرك يهبط ويهيج.
وأعتقد أنها تستمر مثل هذه المواقع بمدى استمرارية جوع العربي للمعرفة، إذا ما كانت تقدم الفائدة بحرفية وتستمر بتطوير ذاتها مع تطور الساحة الأدبية والثقافية، تبقى هذه المواقع الإلكترونية كمرجع علمي وثقافي يرجع إليه الباحث بشكل مستمر.
بالتأكيد ستسهم في ولادة عصر عربي جديد، إن العالم الذي أنشأه الإنترنت ليس عالماً افتراضياً مفصولاً عن الواقع، لقد أسهم وجود مساحات نقاشية وتدوينات ومواقع كهذه في عرض أفكار لم يكن يتوقع الشخص العادي أنه سيطلع عليها وأحيانًا لم يدر أنها موجودة لدى أشخاص عاديين مثله، هذه المواقع أوجدت ساحة تلتقي فيها عقول لم تكن لتلقي في العالم الطبيعي فلم تكن لتنفتح على الآخر أو تطلع على طريقة تفكيره ومبرراته لولا وجود هذه المواقع لأنه في عالمه الطبيعي كان في أفضل الحالات سيلتقي بمحيطه الذي يشبهه في التفكير أو يفتح كتباً كتبها مثقفين وأدباء ومفكرين فيما يشبه الندوات الفكرية أو حلقة نقاشية تثير الأسئلة، لا ننقص هنا من أهمية ما سبق لكن ما صنعه عالم المواقع الإلكترونية من التقاء عقول ببعضها خلق منجلاً ضخماً حطم بواسطته الكثير من الأصنام والأسوار، وهو ما نراهن عليه، لا الأسماء الضخمة بقدر الفائدة، ولا الوجوه المكررة بقدر الإثراء والتجديد، تكوين لعقلية تبحث لا تلقن.
محمد الحاجي: : تحرّر العربي من السطوة الثقافية التي تفرض عليه أفكارًا مؤدلجة
أعتقد أن مثل هذه المواقع تسحب المستخدم العربي إلى ساحة واسعة من التفكير والتأمل, حيث اعتدنا على الوجبات المعلوماتية السريعة التي تُتخم التفكير في شبكات التواصل الاجتماعي. لربما عدّة أسطر من إحدى التدوينات الثقافية تقود إلى ساعات تأمل وعزلة فكرية تنتج من خلالها قناعات جديدة, وهذا ما نحتاجه الآن: إعادة النظر في بعض التلقينات التي اعتدنا عليها بشكلٍ تلقائي. وبحكم أنّ الكثير من هذه المواقع يمتاز بصبغة فنية جميلة وملائمة للأجهزة المحمولة, وتُقدّم في قالب مشوّق ومختصر, فإني أرى أثرًا لها في تكوين النشء العربي. فبشكلٍ عام, كل موقع أو حساب في شبكات التواصل لينجح ويؤثر في فئة الشباب ينبغي أن يقوم على رِجلين صلبتين: محتوى جيد وإخراج فنّي مناسب. أيضًا, لا ننسى أن الساحة العربية التنويرية على شبكة الإنترنت ما زالت صغيرة, فهناك تعطّش من المستخدم العربي لمثل هذه المواقع والمدوّنات. أي أنّ هناك طلبًا محتدمًا يقابله عرض خجول, ولذا أدعو المبرمجين العرب لأداء واجبهم الاجتماعي والإسهام في مساعدة القارئ للحصول على هذه الوجبات الفكرية المثرية.
سأكون متشائمًا قليلاً هنا لأقول إنّ عُمر هذه المواقع أقصر مما ينبغي. فالقائمون عليها في الأغلب غير متفرّغين, ومع خفوت حماسة البدايات وتناقص عدد الزيارات, يفقد الموقع بريقه الأوّلي ليدخل شيئًا فشيئًا إلى عالم الأطلال والنسيان. الجميل أنّ مع موت أحد المواقع تُبعث الحياة في مواقع أخرى جديدة, وتستمر الدائرة. هذه الموجة الرقمية العاتية التي نعيشها تأتي بنسمات الحرّية والتفكير. فأخيرًا تحرّر العربي من السطوة الثقافية التي تفرض عليه أفكارًا مؤدلجة وتعليبات فكرية مُختارة بعناية لخدمة القصر والعمامة. لم نعد في تلك السجون الفكرية, فالطفرة المعلوماتية أعتقت رقابنا وعقولنا لننطلق نحو الفضاء الأوسع. فنعم, نحن الآن شهودًا على ولادة عصر عربي جديد, على الأقل من الناحية الفكرية.
أعتقد أن مثل هذه المواقع تسحب المستخدم العربي إلى ساحة واسعة من التفكير والتأمل, حيث اعتدنا على الوجبات المعلوماتية السريعة التي تُتخم التفكير في شبكات التواصل الاجتماعي. لربما عدّة أسطر من إحدى التدوينات الثقافية تقود إلى ساعات تأمل وعزلة فكرية تنتج من خلالها قناعات جديدة, وهذا ما نحتاجه الآن: إعادة النظر في بعض التلقينات التي اعتدنا عليها بشكلٍ تلقائي. وبحكم أنّ الكثير من هذه المواقع يمتاز بصبغة فنية جميلة وملائمة للأجهزة المحمولة, وتُقدّم في قالب مشوّق ومختصر, فإني أرى أثرًا لها في تكوين النشء العربي. فبشكلٍ عام, كل موقع أو حساب في شبكات التواصل لينجح ويؤثر في فئة الشباب ينبغي أن يقوم على رِجلين صلبتين: محتوى جيد وإخراج فنّي مناسب. أيضًا, لا ننسى أن الساحة العربية التنويرية على شبكة الإنترنت ما زالت صغيرة, فهناك تعطّش من المستخدم العربي لمثل هذه المواقع والمدوّنات. أي أنّ هناك طلبًا محتدمًا يقابله عرض خجول, ولذا أدعو المبرمجين العرب لأداء واجبهم الاجتماعي والإسهام في مساعدة القارئ للحصول على هذه الوجبات الفكرية المثرية.
فائق منيف : اتجاهات أدبية نشأت بفضل هذه الوسائل الجديدة
لكل عصر وسائله وأدواته، تصب فيه كل إرهاصات الحراك الاجتماعي والثقافي أيضًا، ومن ضمن مواكبة العصر، والتأقلم معه نشوء هذه المواقع التفاعلية، التي اكتسبت مصطلحات عدة منها مثلاُ: الأدب الرقمي. ولولا هذا التماهي مع معطيات العصر، لربما أصبحت الثقافة ومنها الآداب والفنون آثارا منفصلة عن الواقع، مقتصرة على جيل متعلق بالماضي، بعيدة عن جيل معايش للحاضر، متطلع للمستقبل. والملاحظ أن اتجاهات أدبية نشأت بفضل هذه الوسائل الجديدة، ربما ليست هي جديدة من حيث ابتكارها أشكالاً أدبية بنائية غير مسبوقة إذا استثنينا الأدب التفاعلي الرقمي، وإنما تكمن جدتها في بعض الأحيان في إحياء اتجاهات أدبية مندثرة، أو ردمها النسيان وعدم الاهتمام في السابق، منها مثلاً القصص القصيرة جدًا ومسمياتها المتعددة مثل قصص الومضة والكبسولة، وما أسميناه سابقًا في المجلة الثقافية بصحيفة الجزيرة، وتحديدًا في صفحة الثقافة الرقمية «القصص التويترية». حيث زاد الاهتمام بهذا الفن القصصي بعد انتشار استخدام موقع التواصل «تويتر» الذي يفرض على مستخدميه اختصار التغريدة في أقل من 140 حرفًا، وبالإضافة إلى انتشار هذا الفن القصصي انتشرت أيضًا قصيدة البيت الواحد، التي تكتفي عن القصيدة الطويلة ببيت واحد مكثف مركز، هذا فيما يخص الجانب البنائي، أما فيما يخص الأسلوب والمضمون فقد طرأت عليه أيضًا تغيرات عدة منها الوضوح والبساطة، والتخلي عن الرمزية والغموض. هل ستستمر طويلاً أم لا؟ حياة هذه الاتجاهات الأدبية مرتبطة بعمر وسائل الإيصال المستخدمة، ولكن موت الاتجاه الأدبي لا يعني موت النص، بل يعني إعادة قولبته في وسائل جديدة، ربما ستأتي قريبًا في العصر المتسارع تقنية وأحداثًا. وستظهر مع الوسائل الجديدة اتجاهات جديدة أيضًا مبتكرة أو معادة الإحياء، لتلائم عصرها الذي تعيش فيه. فالثقافة والأدب ميزتهما أنهما كالسائل الشفاف الذي يكتسب لون إنائه وشكله الخارجي، ولا يفقد بالضرورة طعمه ونكهته.