لاخلاف على أن الخطاب الغلافي من أهم عناصر النص الموازي التي تعيننا على فهم النص على مستوى الدلالة والبناء والتشكيل والمقصدية، وغالبًا مايشتمل الغلاف على اسم المبدع والعنوان والنوع الأجناسي وحيثيات الطبع والنشرعلاوة على اللوحة التشكيلية، أما فيما يخص الغلاف الخلفي؛ فنلفي مقاطع من النص للاستشهاد باعتبارها جميعها موجهات لقراءة النصوص وفي ديوان «خَرَزُ الوقتْ « للشاعر علي الدميني وردت صيغة العنوان كقاعدة تواصلية تنفتح على دلالات وأبعاد متعددة مكتوبًا بخطٍ أحمر سميك على خلفية باهتة تميل للبياض قليلا، كما وردت مفردة « خَرَزُ «مضبوطة بالشكل بين علامتي تنصيص مما جعل صيغة المضاف والمضاف إليه تنفتح على أكثر من أفق قراءة وفهمًا وتأويلاً؛ وكأن هذا السلوك ضرب لإعلان ضمني عن مكتوب مفتوح، فهي منطقة القارئ ليملأها على نحو ينزع فيه إلى رؤية أكثر اتساعًا وشمولية كما سنرى. وإذا ماتجاوزنا قليلا نجد أن الدميني عمد إلى إثبات النوع الأجناسي بخط أقل حجمًا ، ولون أسود لتحديد جنس العمل الإبداعي ، وتمثله صيغة « شعر» ، وهو الرابع في مسيرته الشعرية بعد دواوينه «رياح المواقع»و»بياض الأزمنة»و» بأجنحتها تدقّ أجراس النافذة « مشيرًا إلى دار النشر « النادي الأدبي بالباحة مع دار الانتشار العربي ، الطبعة الأولى 2016م. وقد عمد الدميني إلى انتقاء عتبة اللوحة التشكيلية بعناية لكونها بمثابة الطُّعم الذي يُنصب للقارئ ؛ فإذا دقّقنا النظر في تلك اللوحة لديوان « خرز الوقت» بتكويناتها المغلقة، وعوالمها السريالية التي تجنح نحو التجريدية الغامضة، والمرسومة داخل إطار مربع بكثير من الأناقة، نجدها نمنمة مندمجة، مختلفة مؤتلفة من الألوان والتموجات التي تتناصّ مع المتن الشعري إذ لايمكن «أن تنفلت من تورطها في لعبة المعنى»، وهذا ما يبرز جمالية المرئي الذي تتكاثف مكوناته من أجل تحريك الانفعال، وتأكيد الداخل المكتوب، مما يقودنا لطرح أسئلة عن انتماء اللوحة و دلالتها. هذه البانورامية اللونية بتموجاتها وتدرجاتها الباردة والحارة التي رسمها الفنان التشكيلي عثمان سعيد الغامدي تعدّ صدى لتنوع الدلالات؛ لأن الكينونة الإنسانية الحقيقية بطبيعتها تقبل التعدد والتنوع؛ فتارة تشي هذه الألوان بفقدان الأمل والحزن والفوضى والتوتر نتيجة معايشته للأحداث التي تمر بها الإنسانية، وأحيانًا تشي بمعاني النقاء والتأمل والهمة العالية والتصالح مع احياة والكون، وبقراءة أعمق؛ فإن الفنان والشاعر يتقاطعان في الرؤية والهم ذاته، فالدميني كان على وعي تام حينما قام بانتقاء هذه اللوحة بدلالاتها العميقة لتكون في واجهة الغلاف الأمامي لديوانه؛ ليقدم لقارئه رؤيته وأحلامه وآماله وحرصه على خدمة قضايا الإنسان وهمومه وصراعاته من خلال رسالة بصرية تصادف المتلقي لمناوشته، واستيقافه لطرح التساؤلات عند مواجهة أول الأطلال النصية. ولما كان العنوان أكثر إلحاحًا على مخيلة الشاعر؛ فقد حرص الدميني على اقتطاع جزء من أقوى نصوص ديوانه باعتبار أن القصيدة هي العنوان، والعنوان هو القصيدة ذاتها ليكون ديباجة للغلاف الخارجي؛ فظهر هذا النص المقتطع من قصيدة «خرز الوقت»:
للوقت رائحة القطارِ
ورعشة المرآة لامرأة تزيًن صدرها بسحابةٍ عطش
وأغصانٍ من الولع المعذّب بالغناء ،
وللثوانيْ
مثلُ رائحةِ الطفولة في الحقائب
رنّة الأجراسِ في عنق الحصانٍ
وصوت وثبته الأخيرةْ .
فالمتأمل لعنوان هذه القصيدة التي يسبغها الشاعر على الديوان كله ويجعلها عنوانًا له يمكنه أن يكتشف العلاقة الكامنة بين المضاف «خرز» والمضاف إليه «الوقت» إذ يعدّ «الزمن» بالخرزات / الثواني، وهي معادلٌ لحبّات مسبحة الصوفي الذي يتجاوز المكان والزمان، وتمتلئ القصيدة بهذه الإيحاءات الغامضة الكامنة في الحبات والخرزات وما يعادلها من جموع مختلفة : «تزين صدرها» يقتضي العقد بحباته المتلألئة من سحابة عطشى، وأغصان ، والأجراس، الساعة الثكلى، دبيب النمل، مصابيح الحديقة بالغروب «الزمن معدودًا»، وبة ستاريل، والإبرة، بحبات تضيء، ثياب الوقت، التي تستدعي الزينة السابقة، وعدد الغبار «غبار ثامن، جراد، زيناتها، عوراته، جروف البحر، للثواني، الأسرار ، الأسفار ،ثوب، بمايقتضيه من زينة، و«أساور» بما تقتضيه من خرز، جند، جيش، بنادقه، طواحين الهواء، تفاصيل...، ولا شك أن هذه المتعلقات الإشارية السابقة الواردة في النص متعلقات روحية اغترابية محتدمة بالمنعكسات الوجودية الحافلة بالتوتر والقلق والحساسية الشعورية المرهفة تجاه الكون والحياة. وهكذا تتجلى سيميائية العنوان في الدلالة الكلية التي تنتظم الديوان بأكمله، فالعنوان هنا ليس ميزة تميز الديوان، بقدر ما أن هناك دقة في انتقاء هذه الصيغة الأثيرة لدى الشاعر، وذكاء في تناسلها بطريقة تستفز المتلقي وتثير فضوله لاقتناء الديوان والوقوف على دلالاته. كانت هذه نظرة موجزة على الخطاب الغلافي لديوان «خرز الوقت» للشاعر علي الدميني بما تتضمنه من علامات لغوية وبصرية، وما تشتمل عليه من إشارات سيميائية، ومؤشرات أيقونية تعيّن هويته، وتفتح آفاقًا بعيدة للتلقي.
مستورة العرابي - ناقدة وأكاديمية - الطائف