«أرتعب من فكرة أني لن أحصد يومًا ثمرة جهودي، وأني سأموت هكذا في العتمة الكاملة»، هذه إحدى رسائل النحاتة الفرنسية كاميل كلوديل لأخيها الشاعر بول، تستنجده ليخرجها من ملجأ المرضى العقليين، الذي قضت فيه آخر ثلاثين عامًا من حياتها. فهل ماتت فعلا في عتمة كاملة؟ أم مازال النور يتدفق من أعمالها الخالدة، ليؤكد لنا قصة حياتها، وأن مثلها تنتصر على العتمة؟
النحاتة الفرنسية كاميل كلوديل ولدت في عام 1864 لعائلة برجوازية متدينة. شغفت بالفن والنحت، في مجتمع لم يكن آنذاك يتقبل المرأة كفنانة ومختلفة. فاضطرت لمواجهة مجتمعها لتحقيق أحلامها وطموحها الفني، واصطدمت مع أمها كثيرًا، في حين أن والدها كان يدعمها ماديًا ومعنويًا، ويؤمن بموهبتها.
كاميل التي استطاعت أن تجعل أقسى الصخور لينة في يدها لتنحتها كما تشاء، لم تستطع أن تمتلك قلب عشيقها الفنان أوغوست رودان بالكامل، فظل رودان متمسكًا بزوجته غير الشرعية روز، وأم ولده الوحيد.
تعرفت كاميل على الفنان الشهير رودان الذي يكبرها بأربعة وعشرين عامًا كتلميذة تتعلم في معهده، كان جمالها وشغفها بالفن، وبصمتها الذاتية في أعمالها جعل هذه العلاقة تتحول سريعًا إلى علاقة حب، لتصبح معاونته في أعماله وعشيقته السرية. لكن هذه العلاقة المضطربة واللامتوازنة، جعلتها تتأرجح معه بين الحب والكراهية، الأمل واليأس، كما جعلها أسيرة كونها تلميذة له، فلم تستطع كلوديل أن تسوّق لأعمالها الفنية خارج نطاق رودان وحضوره الفني آنذاك. بقيت دومًا في حالة دفاع عن أعمالها وتفردها بها، فلطالما لاحقتها الاتهامات بتأثير رودان على أعمالها، ولمساته فيها. لكن كاميل قالت “أنا رودان، ورودان أنا” مشيرة إلى تأثير كل واحد منهما على الآخر، والأثر الذي تركته علاقتهما الطويلة الممتدة لأكثر من عشر سنوات على أعمالهما سويا.إن كانت هذه العبارة “يعذبني دوما شيء ما غائب” للنحاتة كلوديل التي نُحتت على واجهة أحد فنادق ستراسبورغ، موجزة عن حياتها المشوّشة، فظلت دومًا تلهث عن حبٍ تخلّى عنها، وتركها وحيدة، فإن عملها المنحوت “عصر النضوج” يُعد سيرة ذاتية موجزة عن حياة التعلّق والاستجداء وشبابها الضائع في سبيل رودان. فما إن تخلّى عنها رودان، حتى هاجمتها الوساوس والهلوسة، فعزلت نفسها عن العالم الخارجي، وحطّمت معظم منحوتاتها، واتهمت رودان أنه يحاول سرقة أعمالها وتسميمها، لأنه يخاف أن تصبح أكثر أهمية منه خلال حياته وبعد موته.
لم تستطع عائلتها تحمل الفضائح وهلوسات كاميل، فبعد وفاة والدها الذي يؤمن بعبقريتها بأسبوع، أدخلتها أمها وأخوها ملجأ للأمراض العقلية، وظلت في الملجأ آخر ثلاثين عامًا من حياتها، لم تزرها أمها ولا مرة، وزارها أخوها الشاعر بول تسع مرات، وظلت تنادي أخوها بكل حب ببول الصغير. بعد سبع سنوات من وجودها في الملجأ كتب الأطباء لأخيها الشاعر الذي بدأ يلمع صيته في فرنسا، أن أخته لا تحتاج لعناية صحية، وأنها تجاوزت أزمتها النفسية، واستنجدت به كاميل أنها تخسر الكثير في هذا الاستعباد، لكن الشاعر المتدين بول كان يرى أنّ الله هو من منحها عبقريتها، والله هو من غلّ يدها، وأن عليها أن تقبل ذلك تكفيرًا عن خطاياها.
تناول فيلمان سيرتها الذاتية، فقدّم المخرج برونو نيوتن فيلم “كاميل كلوديل” عام 1988، وفيه صوّر بداية حياة كاميل وشغفها بالطين والرخام، وعلاقتها مع رودان وأخيها بول، والاضطرابات التي مرّت بها في حياتها، وأثر ذلك على فنها ونحتها، في حين صوّر المخرج دومونت في فيلمه “كاميل كلوديل 1915” حياة كاميل في الملجأ، والأمل الذي كان يملأها اتجاه أخيها، وانتظارها له كمنقذ من هذا الاستعباد كما تسميه.
ماتت كاميل في الملجأ عام 1943، ولم يحضر بول جنازتها، ودفنت في مقبرة عمومية، ولم يتم العثور على جثمانها.
- د. الهنوف الدغيشم