«الوطن كذبة بيضاء، يروج لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة» حجي جابر
قبل أربعة أعوام تقريبًا كانت هنالك حملة طريفة على «تويتر» في البحث عن مغردين من جيبوتي. ورغم أنها كانت حملة تعجيزية نوعًا ما - إن صح التعبير - لكنها كانت تطرح تساؤلاً (مضمرًا) عن عزلة بعض الدول وغيابها عن وسائل التواصل الاجتماعي. أعرف تمامًا كيف تجري الأمور في الدول ذات الأنظمة القمعية، والرقابة الشديدة التي تفرضها على كل ما يتعلق بحياة الإنسان على أرضها، فضلاً عن تواصله مع العالم الآخر خارج فضائها الضيق، ولهذا طرقت الحملة التويترية تلك «جدران الخزان» وإن على نحو خافت؛ لتلفت النظر نحو عزلة دول القرن الإفريقي. أظن أنني لم أكن أعرف شيئًا عن إريتريا - عدا ما جاء به منهاج الجغرافيا في الصف الثالث الثانوي الذي لا يذكر إلا ما هو غير مهم - قبل قراءة أعمال الروائي حجي جابر؛ فقد نجح حجي بانتشال بلده إلى حد ما من عزلته الرهيبة، وأن يولد له مكانًا على خارطة المشهد الأدبي. يقول جابر في حوار أجرته معه صحيفة الحياة: «هناك لا مبالاة عربية بإريتريا عمومًا، فضلاً عن آدابها».
وقد أتفق معه فيما ذهب إليه، غير أنني أعتقد أن الأمر ليس عائدًا إلى اللامبالاة - التي لا أبرئ منها المشهد العربي - بل هو عائد إلى وضع البلد نفسه الذي لا يختلف عنه وضع موريتانيا أو جيبوتي، والتي لا يعرف القارئ العربي أحدًا من أدبائها أو حتى لمحة عن المشهد الثقافي فيها، إن كان ثمة واحد، فالمسؤولية - إذن - واقعة على الطرفين، القارئ والكاتب أيضًا؛ لأن التعريف بهذا التفصيل - الذي يعتبر رفاهية لا تتحقق في بلدان قمعية - عائد إلى نشاط الكاتب ومجهوده الشخصي فحسب! لذلك يمكن القول إن جابر قد نجح في خرق جدار الصمت، وتحطيم حائط العزل في رواياته الثلاث (التي صدرت كلها عن المركز الثقافي العربي)، ونجح في أن يكون روائيًّا ملتزمًا (دون تحميل المفردة الإرث المقيت للأدب الاشتراكي) بتشريح وجع بلده، الذي يشبه بلدانًا أخرى في العالم العربي.
في ثاني أعماله «مرسى فاطمة» (الأنضج فنيًا بين الثلاث) تتداخل الحكايا على نحو كبير، يجعلها أقرب لدمى الماتريوشكا. حكاية تسلمك إلى أخرى داخلها، تبدأ كبيرة ثم تصغر شيئًا فشيئًا؛ لتصبح سلمى هي الوطن المفقود. متاهة تشبه ما كان يدخله المتسابقون في برنامج الحصن الياباني؛ تفتح بابًا ثم آخر؛ لتفاجأ بالمارد خلف أحدها يخرجك من اللعبة «بخفي حنين»! كان يمكن للرواية أن تنتهي بنزول البطل من الحافلة التي كانت ستعني له بداية جديدة، لكنه اختار التمسك بحياته التي يعرفها في آخر لحظة، وكانت عندها ستكون رواية مكتملة، غير أن الأحداث التي تلتها لم تجعلها مترهلة -أو بدينة بحسب تعبير سعيد يقطين الرائج مؤخرًا - بل كانت إتمامًا لشكل «الماتريوشكا» أو الصناديق المتعددة التي بنى عليها الكاتب عمله منذ البداية. اعتادت أمي - رحمها الله - أن تردد دومًا (من صبر ظفر)، وأظننا بعد أربع سنوات من تلك الحملة ظفرنا بغنيمة إريترية واعدة للغاية، على أمل أن نرى أخرى من جيبوتي قريبًا!
- بثينة الإبراهيم