تناولت في المقالة السابقة أضلولة أن الأخفش وضع بحر المتدارك. وبيَّنت أن عددًا من الدارسين ناقشوها، وفندها بعضهم. وأمضي في هذه المقالة لأتتبع بداية هذه الأضلولة؛ فلعل في ذلك شيئًا من الفائدة، يتضح في هذا السياق.
لقد حسبت في البداية أن هذه الأضلولة تناقلها الناس عن ابن خلكان المتوفى سنة 681هـ، الذي قال: «والخليل هو الذي استنبط عِلم العروض، وأخرجه إلى الوجود، وحصر أقسامه في خمس دوائر، يستخرج منها خمسة عشر بحرًا، ثم زاد فيه الأخفش بحرًا آخر سماه الخبب».
وكنت أظن أنه المسؤول عن إشاعة هذه المسألة, وأن نصه هذا هو أقدم إشارة جاء منها هذا الخطأ, لولا أني أثناء تتبعي لهذا الخيط وجدت في كتاب (الإقناع في العروض وتخريج القوافي) للصاحب بن عباد المتوفى سنة 385هـ إشارة مهمة، ذكرها محقق الكتاب محمد حسن آل ياسين في حاشية على قول ابن عباد: «والشعر كله أربع وثلاثون عروضًا وثلاثة وستون ضربًا وخمسة عشر بحرًا». إذ يقول المحقق بعد أن وضع إحالة عند كلمة (بحرًا): «جاء في هامش الأصل بعد هذه الكلمة ما نصه: (على رأي الخليل وواضع هذا العلم, وستة عشر بحرًا على رأي الأخفش النحوي..». ولم يشر الناسخ إلى مصدر هذا التعليق. وهذا القول وارد في نسخة رقم (ب) من مخطوطتي الكتاب, وهي نسخة مكتوبة سنة 569هـ, وهذا يعني أن هذا الوهم العلمي كان شائعًا قبل ابن خلكان بأكثر من مئة عام.
ويدهش القارئ من طرق التعامل العلمي في تناول خبر أو مصطلح، والأسوأ من كل ذلك تناقل القول وتحريفه، سواء جاء هذا التحريف من القدماء أو المحدثين. وأختم بنص قرأته حول هذه المسألة العلمية لمحمد الدمنهوري في كتابه الإرشاد الشافي، وهو حاشية شارحة لمتن كتاب (الكافي في علمي العروض والقوافي) لأبي العباس أحمد القنائي المتوفى سنة 858هـ, وفي مقدمة الدمنهوري يقول إنه ابتدأ هذا الشرح سنة 1230هـ. وهو يفصل المسائل العلمية ويتقصاها فيما يتعلق بالعروض ومصطلحاته. قال حينما تناول (المتدارك): «(قوله المتدارك) بفتح الراء سمي بذلك؛ لأنه تدارك به الأخفش النحوي على الخليل؛ إذ تركه ولم يذكره من جملة البحور. وبكسرها لأنه تدارك المتقارب أي التحق به؛ لأنه خرج منه بتقديم السبب على الوتد. وعدم ذكر الخليل له قيل: لأنه لم يبلغه, وقيل: لأنه مخالف لأصوله بدخول التشعيث والقطع في حشوه، وهما مختصان بالأعاريض والضرب، مع أن استعمال العرب له قليل.. واختلف هل منعه أصلاً أم سكت عنه لكونه مخالفًا لأصوله؛ فإن القطع مختص عنده بالأعاريض والضروب, وفي هذا البحر جاء القطع في الحشو فقيل: لا أثبته ولا أمنعه. وقيل: بل منعه بالكلية».
ومن الواضح من القول أعلاه كم الخلاف والأقوال والتعليلات التي أثارتها أضلولة اختراع الأخفش له, ولعل فيما تقدم من تفصيلات في هذه المقالة والمقالتين السابقتين ما فيه الكفاية من رد وتفنيد.
- د. فاطمة بنت عبدالله الوهيبي
Rafeef 2010@gmail.com