يمثل التراث العمراني ذاكرة الوطن والجانب المادي الذي يجسد ثقافة وهوية المجتمع، فهو شاهد على فكر وجهد وتميز الإنسان السعودي في مواجهة تحديات بيئته القاسية، ودليل ساطع على إبداعاته في تطوير نموذج عمراني مميز، يعزز قيم الترابط الاجتماعي، ويقلل من قسوة المناخ، ويزيد من أمنه واستقراره.
ومن تُتَحْ له فرصة زيارة العمارة التقليدية، يدرك تلك الحميمية التي كانت تربط سكانها، وتنطلق من قيم التعاون والتكاتف والتشارك والتحاب، وهي جوهر الحياة الاجتماعية، ومصدر التغلب على المصاعب وشظف العيش. كان الناس في ذلك الزمن الجميل يدركون تماما مفهوم العيش المشترك، ويؤمنون ألا غنى لأحدهم عن الآخر، فالمخاطر تحدق بهم من كل صوب، ولا يمكنهم مواجهتها ومعالجة ما تفرزه من تحديات ومشكلات إلا بتكاتفهم والبحث عن حلول وأفكار جديدة، وهذه الأفكار لا تتولد إلا من خلال التفكير الجمعي، والمنفعة المشتركة، وحرية التعبير، والشفافية، واحترام الرأي والرأي الآخر، وموضوعية الطرح.
هكذا تطورت ثقافة اقتصادية واجتماعية محلية مبنية على المعرفة التراكمية في أساليب الإنتاج والبناء والتربية، وتوثيقها ونقلها من جيل إلى آخر كتقليد متبع. حتى كانت كل قرية وبلدة تتميز بإبداعاتها العمرانية والصناعية والزراعية والرعوية. إنه اقتصاد المكان الذي يعتمد على الثقافة المجتمعية وأسلوب المعيشة والإنتاج، ويجعل هذه البلدة أو تلك قبلة للمتبضعين أو حتى طلاب العلم. هكذا تخلقت الثقافات المحلية سعيا إلى التميز والإجادة، وتوظيفا للموارد المتاحة في ظل منافسة شديدة وموارد قليلة، لتعلن أن إرادة الإنسان تظل بذرة التغيير إلى الأفضل، ومرتكز جهود التنمية. العنوان الأميز في هذا الإرث العظيم هو أن «الحاجة مصدر إلهام وليست عائقا». المحرك الأساس وراء ذلك هو نظام اجتماعي واقتصادي مبني على التفاضل بين الأفراد على أساس الجدارة والخلق الكريم، ليتولد وعي تام لما ينبغي عمله، وقرارات تربط بين السبب والنتيجة، وبين المدخلات والمخرجات.
إن الحفاظ على التراث العمراني يأتي من باب الحرص على تسجيل تلك القيم والثوابت الوطنية كاستحقاق وطني، جعلت إنسان هذه الأرض المباركة مميزا أينما حل وارتحل. فميزت المجتمعات بثقافاتها وما تكتنزه من أفكار وطرق لمعالجة المشكلات ومواجهة التحديات، وما تطوره من وسائل إنتاج وأساليب إدارة المجتمع. لقد كانت المجتمعات التقليدية أكثر التصاقا بالبيئة، وأكثر إحساسا بالمتغيرات، ولذا كانت أقدر على الاستجابة لمتطلباتها. هذه الثقافة والمعرفة المحلية جعلت الإنسان السعودي يتميز بتطوير أساليب العمارة والمعيشة، وجودة الحياة بصناعاته الحرفية، ومنتجاته الزراعية، وتنمية الثروة الحيوانية، ليس ذلك فحسب، وإنما الأهم فكره الإبداعي، وخلقه الرفيع في التعامل، وقدرته على التكيف دون ذوبان لشخصيته وهويته.