د. فوزية البكر
في بلد جميلة وناجحة مثل سنغافورة وفي أوائل التسعينات جرت محاولة لتحديد أهم العوامل المشتركة التي تحقق ضرورات التعايش الثقافي لأجناس مختلفة عرقيا وثقافيا حيث يتشكل سكان هذه الجزيرة الصغيرة البالغين خمسة ملايين من غالبية صينية تشكل حوالي 76 % و6 % مالاي ومسلمين و6 % هنود (هندوس وسيخ.). هذا علما أن الجميع يتعلمون اللغة الإنجليزية بإتقان كما تنغرس القيم (الكنفوشية) في مناهج التعليم منذ رياض الأطفال ومن ثم حاولت هذه الدولة الصغيرة النافذة اقتصاديا منذ أوائل التسعينات تحديد أهم العوامل التي تحقق ضرورات التعايش فوجدتها كما اقترحها رئيس الدولة آنذاك واسمه (وي) كما الآتي: (كتاب:صراع الحضارات: هينجتون ص 516):- وضع المجتمع قبل الذات: أي أن الأمة قبل التجمع الاثني فالمجتمع قبل النفس - دعم الأسرة باعتبارها كتلة البنية الأساسية في المجتمع -حل القضايا الرئيسية عن طريق الإجماع بدلا من الخلاف - التأكيد علي التسامح والتآلف الديني والجنسي ولا حقا أضيفت قيمة خامسة لدعم الفرد وهي:- الاحترام والدعم المجتمعي للفرد المشروع السنغافوري كان محاولة لتحديد هوية ثقافية سنغافورية مشتركة بين الجماعات العرقية والدينية في هذا البلد الصغير الذي لا نذكره اليوم إلا ونذكر أمامه قيما عليا متميزة مثل النجاح الاقتصادي والديمقراطية واحترام الإنسان والنظافة والإبداع وهو ما جعل هذه الدولة تحصل في مؤشر جودة الحياة الذي تنشره الإيكونيميست على الدرجة الأولى بين الدول الآسيوية والدرجة الحادية عشر على مستوي العالم وفي العام 2104 احتل الجواز السنغافوري المركز السادس حول العالم والذي يمكن حامليه من الدخول إلى 167 دولة دون فيزا مسبقة! وفي بلد كاليابان تركز مواد التربية الوطنية والتي لا توضع في مواد مستقلة وإنما تضمن في مواد كثيرة مثل التاريخ والدراسات الاجتماعية و الجغرافية على القيم التالية: (من كتاب: التربية على المواطنة ص128): احترام الذات والآخرين والإنسانية عامة فهم الشعوب والثقافات المختلفة تنمية استعداد الطلاب على تحمل المسؤولية تجاه أنفسهم ومجتمعهم زيادة الوعي بالقضايا والمشكلات المحلية والدولية تكوين الاتجاهات الخاصة بعملية التفاهم والسلام الدولي اليوم تعد اليابان من أكثر دول العالم تقدما على كافة المستويات كما أنها تعد الأفضل من حيث مستوى المعيشة لسكانها الذين بلغ تعداهم عام 2016 حوالي 127مليون نسمة ولايملكون أية موارد طبيعية بل إن اليابان كبيئة جغرافية تعد الأخطر من حيث تعرضها للعواصف والكوارث الطبيعية بحيث تحدث هزات زلزالية متكررة كل يوم دون أن تؤثر في المسار اليومي للملايين التي وضعت أبنيتها واقتصادها لخدمة بيئة قلقة جيولوجيا لكنها سخرت كل ذلك دون متاعب؟ أين يكمن سر التصالح مع النفس والعالم والانشغال بالصالح العام والعناية بجودة المنتج؟ إنه من خلال إعلاء قيمة الإتقان الفردي الذي يؤدي تراكمه إلى جودة عامة جعلت اليابان رمزا للتفوق الاقتصادي والتكنلوجي ومحطة للسلام مع النفس والعالم.
الآن ونحن ندخل مرحلة تاريخية جديدة دشنتها القرارات الملكية التي صدرت السبت الماضي بتاريخ 7-5-2016 والتي لخصتها الرؤية الشابة التي عرفت برؤية 2030 والتي كما قرأنا عنها بأنها ستشكل خارطة لأهداف المملكة في التنمية والاقتصاد للخمسة عشر عاما القادمة وهي حاولت تجديد خلايا الأمة من خلال إعادة الهيكلة لمفاصل الدول الرئيسية وتأكيد مبادئ الحوكمة والمسئولية الفردية والجماعية وإعلاء قيمة العطاء الفردي للجماعة مقابل التحصن في خنادق المكاسب الذاتية، كل ذلك يطرح السؤال الرئيس الذي حق لنا الآن أن نفكر فيه بصوت عال حتى يمكننا اللحاق لاهثين بهذه الرؤية المتقدمة وبهذا الشاب المغامر بحيث يجب أن نسأل أنفسنا كسعوديين: ما أهم أساسيات التعايش التي يجب أن نضعها أمامنا حتى نتمكن من اختراق حاجز المستقبل عبر رؤية 2030 التي دشنها الأمير الطموح؟ من الواضح أن ترديد الشعارات التي استهلكها الزمن لم يعد مقبولا ليس فقط بحكم المرحلة بل حتى على أسماع شباب الأمة مما يحتم طرح مفردات جديدة تحافظ على الهوية الإسلامية والعربية والسعودية لكنها أيضا تؤكد على الهوية العالمية: تؤكد كما في أساسيات التعايش التي أقرتها الدول الآسيوية الناجحة والتي قدمنا أمثلة لها وذلك بالتأكيد على أهمية الأمة وتقديم مصلحة المجتمع على المصلحة الفردية مع وضع أهمية خاصة للفرد ودعمه من قبل الدولة باعتباره المنفذ للبرامج بإتاحة كافة فرص التعليم والتدريب والتطبيب له وألهم إعادة التشكيل لذهنية السعودي والسعودية برفع درجة الإحساس بالمسئولية الفردية تجاه النفس والمجتمع والعالم فكل فعل نقوم به ومهما صغر ينعكس سلبا أو إيجاباً على أنفسنا وأسرنا ومجتمعنا ثم العالم من حولنا وكل ذلك في ظل العناية بالأسرة كونها الخلية الأساسية للمجتمع مع تركيز المؤسسات العامة كالمدرسة والمسجد ووسائل التواصل الاجتماعي على تعليم أساسيات التعايش السلمي داخل المجتمع الواحد ومع العالم الخارجي والتدرب أفرادا وجماعات على حل النزاعات بطرق سلمية بما يضمن الأمن والسلام المحلي والعالمي.
أمامنا مهمة كبيرة وجميلة وعتادنا اليوم بعد أن غابت شمس البترول (للأسف) أن نركز على بناء الفرد ليبني أمة المستقبل.