أثناء كتابة هذه السطور انهارت اتفاقية «وقف الأعمال العدائية» في سوريا، بينما انخرط على الأرض آلاف الجنود الروس لمساعدة بشار الأسد في حملته لاستعادة حلب، وفي الوقت ذته فإن اتفاقية «مينسك2» بين روسيا وأوكرانيا يبدو أنها كلما انتهكت من الجانب الروسي كلما حظيت باحترام أكثر من الجانب الغربي.
في كلا الحالتين، من الواضح أن موسكو لم تكن معنية في يوم من الأيام بتطبيق البنود التي وقعت عليها، فوقف العمليات العدائية في سوريا لم يتحقق في يوم ما بصورة حقيقية، فقد استمرت الحرب ضد معارضي الأسد، ويبدو أن بوتن قال لبشار: «إننا لن نتركك تخسر».
وبصورة موازية هناك أصوات تتعالى من النخب الأوروبية تنادي بتخفيف العقوبات عن كاهل روسيا لأن بوتن يتعاون مع الغرب ضد الإرهاب في سوريا، ولكن على أولئك - الذين يرغبون في تخفيف العقوبات أو إزالتها تماما بحجة التعاون المزعوم من بوتن في سوريا ضد الإرهابيين - أن يثبتوا لنا كيف تأكدتم من ذلك التعاون ولماذا يجب علينا أن نبدأ معه في عملية حوار حقيقية؟ فقد أوضح بوتن للجميع أن روسيا تحت قيادته لم ولن تستطيع أن تقدم تعهدات ذات مصداقية في يوم من الأيام.
ففي اجتماعات مجلس التعاون الروسي مع الناتو وجه السفير الروسي أليكساندر جروشكو إنذارًا للناتو، قائلاً أن أي خطوات من الناتو لتحسين وضعها الدفاعي ذاتيًا سوف تراه روسيا على أنه تهديد يستحق إيقاف المفاوضات وسوف يدفع موسكو إلى اتخاذ «الرد المناسب»، وهي العبارة التي طالما اعتاد الروس على قولها. جروشكو لم يصرح فقط أن موسكو ترى الناتو على أنه تهديد، ولكنه أصر على ألا يدافع الناتو عن نفسه، لأن هذا التحرك هو «تحرك عدائي» في حد ذاته.
ولدينا في الولايات المتحدة إدارة أوباما التي تقع دائمًا في عادتها الفطرية من بلبلة عندما يتعلق الأمر بأهداف بوتن، فقد صرح سفير الولايات المتحدة لدى الناتو دوجلاس لوت أنه لا توجد هناك أي خطط لمزيد من توسعة الناتو لأننا بذلك سوف نستفز روسيا، وهو شيء لا ترغب فيه الولايات المتحدة.
وفيما عدا الكلمات، لا يوجد هناك أي رد فعل حقيقي على السلوك الاستفزازي الروسي المتصاعد وتهديداته للناتو، ويبدو أن بوتن يستطيع أن يستفز الناتو كما يحلو له، في حين أن رد الفعل الوحيد من جانب الغرب هو تسليح الناتو بحالة من الإنكار الذاتي عن استسلامها الوقائي لأجندة بوتن. فقد تصاعدت الضغوط من كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا مطالبة بإنهاء أو تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا، بينما لا يضغط الأوروبيون بصورة كافية على روسيا من أجل تنفيذ وقف إطلاق النار في أوكرانيا، كما أن اتفاقية «مينسك2» لا تجبر روسيا على أي شيء أو حتى قبول أن روسيا هي فعليًا في حالة حرب مع أوكرانيا منذ 2014.
هذه الاتفاقية تساوي ما بين الحكومة الأوكرانية و»الانفصاليين»، والذين هم في حقيقتهم قوات نظامية أو غير نظامية روسية ترتدي زيًا مشابهًا للمليشيات، كما تقنن تخلي أوكرانيا ذاتيًا عن سيادتها على إقليم دونباس.
بالرغم من أن هناك إجماعًا على أهمية وجود قوات بصفة دائمة تتمركز في أراضي دول أوروبا الشرقية الأعضاء في حلف الناتو، إلا أن واشنطن وبرلين، اللتان تخشيان بصورة مساوية استفزاز بوتن، اعترضا على مقترح نشر قوات دائمة قدمته بولندا ودول البلطيق. وحتى الآن ليس لدينا لواء مدرع ينتشر بصورة دائمة في أوروبا، وهو الحد الأدنى من متطلبات الجنرال كروتس سكاباروتي، القائد الأعلى الجديد لقوات التحالف في أوروبا. قبل غزو أوكرانيا، كانت روسيا لديها تفوق عسكري واضح على مسرح البلطيق، كما أنها دعمت بصورة مستمرة تفوقها هناك عن طريق إنشاء فيالق جديدة وصعدت من إيقاعها التدريبي وعمليات الانتشار النووي، بالإضافة إلى تكديسها للأسلحة النووية والتقليدية بصورة مستمرة هناك.
الحقيقة هي أن أي شيء يفعله الناتو - حتى مجرد وجوده في حد ذاته - يمثل استفزازًا لروسيا لأنها كما توضح وثائقها الرسمية بجلاء، تفترض مسبقًا الصراع مع كافة جيرانها بغض النظر عن سياساتهم الحقيقية. بالإضافة إلى أنها تستمر في إرسال تلك الإنذارات إلى الناتو كما لو أنه ينتهك التزاماته بوضوح.
إن الوضع الراهن في المجلس المشترك ما بين روسيا والناتو ومناورات موسكو المستمرة يوضح بجلاء أن الناتو لا يستطيع العمل بدون التعاون الروسي، ولكن بالنسبة لبوتن فإن ذلك الحوار لا يمثل سوى وسيلة للضغط من أجل الوصول إلى حالة الحوار غير المشروطة مع الاتحاد الأوروبي ويتخلص كذلك من العقوبات، في الوقت الذي تحافظ فيه موسكو على تهديدها لأوكرانيا مع إطلاق يديها في سوريا.
اليوم، حتى غير الخبراء استطاعوا أن يفكوا شفرة أهداف بوتن في سوريا وأوكرانيا، ولكن يبدو أن حكوماتنا، المستنزفة بالارتباك الفطري والعماء الإرادي، لا يزالون يسيرون في الظلام، ومن غير المحتمل أن تنكشف عنهم الغمامة في قمة الناتو هذا الصيف في وارسو.
ستيفن بلانك - كبير الباحثين في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي