أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان ابن عبدالعزيز - حفظه الله - مؤخرًا عن رؤية المملكة العربية السعودية 2030، والتي ترسم معالم الخطط المستقبلية التي ستنتهجها المملكة لمشروع تنموي يستهدف كل القطاعات الحكومية والخاصة والمدنية والعسكرية. وأعقب ذلك ظهور متلفز لسمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز الذي كشف فيه بعض التفاصيل حول هذه الرؤية وكشف الغطاء عما يخص الاستفسارات والتوجسات حيال بعض الأمور الحساسة التي تمس بالمقام الأول الجانب الاقتصادي ومستقبله.
فقد بيّن سمو ولي ولي العهد بأن الرؤية ارتكزت على ثلاثة محاور رئيسية كعناوين لمسيرة تنمية طموحة، وهي الإرث الديني والقوة الاقتصادية والموقع الجغرافي. فهذه المحاور الثلاثة قد لا تكون مثيرة لدهشة بعض المتخصصين في شموليتها، ولكن مثار الدهشة الحقيقي هو ذلك الربط للأبعاد المختلفة لهذه المحاور ونسجها بانسجام كامل في خدمة الاقتصاد والسياسة والدين والمجتمع، بل وتعدت ذلك بتخطي الرقعة الجغرافية للمملكة العربية السعودية والانطلاق لتعم فائدتها النطاقين الإقليمي والدولي. فهذا بلا شك يبعث بدلالات واضحة لحجم العمل والجهد المبذولين من مجموعة الخبراء العاملين على هذه الرؤية وبالقيادة الإدارية الفاعلة لعرابها سمو الأمير الشاب محمد بن سلمان لتخرج إلى العلن وقد بلورت الكثير من الأفكار ووضعتها في المسارات الصحيحة. ليتبقى بعد ذلك أهم المراحل التنفيذية باختيار الكوادر الفاعلة والقادرة على ترجمة هذه الرؤية إلى خطط عمل تفصيلية والإشراف على تنفيذها لتحقيق الأهداف.
ولست هنا بصدد تناول وتفصيل المحاور والالتزامات والأهداف التي احتوتها الرؤية بين صفحاتها أو تفسير بعض ما جاء باللقاء التلفزيوني لولي ولي العهد، فمن المؤكد أن الكثير من المفكرين والمتخصصين سيتناولون هذه الرؤية تدقيقاً وتمحيصاً كلٌ في مجاله و فنه، ولكن سأتطرق في هذه السطور بما أجدني قادر على التحدث بشأنه كنظرة استشرافية بعيدة لمشاهدة الآفاق المستقبلية لرؤية المملكة العربية السعودية 2030 وأثرها في صناعة الإنسان.
1 - القوة البشرية هو الاستثمار الحقيقي:
فقد أشاد سمو ولي ولي العهد في حديثه التلفزيوني بالشباب السعودي وأنه هو الثروة الحقيقية، وتحدث عنهم بكثير من التركيز والإسهاب لأهمية العنصر البشري ودوره في هذه الرؤية، وهنا بلا شك دلالات يجب التوقف عندها ببعض التعليقات:
1-1 - الاهتمام بالعنصر البشري كثروة: النظرة الثاقبة لسموه الكريم بأن الثروة الحقيقية والاستثمار الفعلي هو بقوة العنصر البشري، فمهما بلغت الثروات فستظل غير مستغلة بغياب العنصر البشري. وهنا رسالتان واضحتان: الأولى موجهة إلى الشباب كعنصر فاعل في عملية التنمية المستقبلية، فلذلك يجب عليهم استغلال الفرص، وشحذ الهمم والدخول بقوة في هذه العملية كشريك وليس كمستخدم. أما الرسالة الثانية فكانت لأصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين والإداريين التنفيذيين بأن هذه العملية التنموية شريكها الأساسي هو العنصر البشري. فالاستثمار وفق هذه الرؤية ليس اقتصاديًا بحتًا بل اجتماعي وتعليمي أيضًا. يتم من خلالها التأهيل العلمي والعملي للعنصر البشري على جميع المستويات العلمية والاجتماعية، مما يؤدي إلى رفع الكفاءة والتحصيل لدى المواطن وهذا بالتالي يؤدي إلى العلاقة التكاملية المنشودة بقوة في الأداء الاقتصادي المعتمد على كوادر مؤهلة، وأيضًا إلى رفع مستوى الدخل والمعيشة للمواطن من الجانب الآخر.
1-2 - التعليم والتدريب التأهيلي: تضمنت رؤية المملكة العربية السعودية 2030 بكثير من التركيز على التعليم والتدريب وبناء الإنسان كركيزة أساسية من ركائز الاستثمار، وهذا يدل على فكر عميق وبعد نظر وقراءة واضحة للمستقبل. ومن هذا المنطلق فإن العملية التعليمية والتأهيلية يجب أن تكتسي بثوب المرونة والديناميكية والخروج من حالة الجمود والتكلس التي وصلت إليه هذه المؤسسات. فقد تطرق سمو ولي ولي العهد إلى التوازن المطلوب بشدة بين مخرجات المؤسسات التعليمية والمهنية وحاجة سوق العمل.
ومن وجهة نظري أن أهم خطوة للخروج من هذا الجمود الراهن هو إيجاد وتفعيل قنوات الاتصال بين الجهات المعنية ووضع خطط إستراتيجية قصيرة وطويلة لتطوير المناهج التعليمية وزيادة ساعات العمل التدريبية للطلبة بالتعاون مع سوق العمل والخروج من ضيق صفحات الكتب والمراجع إلى رحاب الميدان التطبيقي الواسع.
1-3 - الاهتمام بالشباب كمكون أساسي في المجتمع: أشار سموه إلى أن فئة الشباب هي الفئة السنية الأكثر في المجتمع السعودي، وبالتالي فإن رؤية المملكة العربية السعودية 2030 ستعتمد على الاستثمار في فئة الشباب في تنفيذ الرؤية والاستفادة منها، وذلك جنبًا إلى جنب بأصحاب الخبرات العلمية والعملية. فاستهداف فئة الشباب هو بلا شك أمر مدروس بعناية، فهذه الفئة السنية تتميز؛ بالحماس الشديد التي تحركها الرغبة بإثبات الذات وتحقيق منجزات قد لا تكون موجودة لدى الفئات الأكبر، بسهولة قوبلت وتشكلت هذه الفئة لحاجة متغيرات العمل، الديناميكية والحيوية ورغبة الشباب للتغيير والتجربة، إضافة إلى العامل السني بما يسمح لهم بالخدمة لفترة أطول فإن دافع الشغف والتطلع لرؤية منجزاتهم تتحقق على أرض الواقع من العوامل الحاسمة لعدم الاستسلام لليأس والإحباط عند أول كبوة.
1-4 - صياغة دور إدارة القوى البشرية: الاهتمام الواضح من سموه بإدارة القوى البشرية سواء في حديثه المتلفز أو في سياق ما جاء في ثنايا رؤية المملكة العربية السعودية 2030، وذلك في جميع القطاعات الحكومية والعسكرية والخاصة، وذلك من أجل الاستفادة القصوى من هذا العنصر الفعال في البناء والتطوير.
فهنا دعوة واضحة من الخروج بهذه الإدارة من النمطية التقليدية المنحصرة بالتوظيف والترقيات إلى ما هو أوسع، وذلك بالتركيز على إدارة العنصر البشري كثروة لا تقل أهمية عن الثروة النفطية. فلعل حديث الأمير الشاب وتركيزه على إدارة القوى البشرية وذلك بتطوير الأداء الوظيفي وتفعيل قياس الأداء للموظف والوزارة أو المؤسسة واستغلال التقدم الإلكتروني يهدف إلى الحصول على أفضل ما يمكن من العنصر البشري وذلك بتطوير أنظمة وقوانين إدارية ذات مرونة وديناميكية فاعلتين وبفكر عصري يواكب المرحلة.
2 - الصناعة:
فقد تحدث سمو ولي ولي العهد في معرض إجاباته في اللقاء التلفزيوني عن الصناعات التعدينية والعسكرية، كما أن رؤية المملكة العربية السعودية 2030 قد توسعت بذكر صناعات أخرى كصناعة الطاقة المتجددة وربطها بصناعات داعمة كصناعة السيلكون. وهذه الصناعات الثلاث، إضافة إلى الصناعات البترولية والبتروكيماوية يجب أن تشكل العمود الفقري للصناعة في المملكة العربية السعودية. ولعلنا هنا نتطرق إلى بعض النقاط المهمة في مجال الصناعة التي أثارها سموه التي يجب الوقوف عندها والأخذ بها لإنتاج اقتصاد قوي متعدد المصادر لا يتأثر بالعوامل الخارجية.
2-1 - التوازن والتوافق بين الإنفاق والنشاط الصناعي: فقد تطرق سمو الأمير محمد بن سلمان إلى نقطة جوهرية في العملية الصناعية عندما طرح سؤالاً تعجبياً «هل يعقل 2014 السعودية أكبر رابع دولة في العالم تنفق عسكرياً، و2015 السعودية أكبر ثالث دولة في العالم تنفق عسكرياً وليس لدينا صناعة داخل السعودية؟!» وفي هذا التساؤل إشارة واضحة إلى التوازن والتوافق بين الإنفاق والنشاط الصناعي. ولعل أهم رسالة يمكن استخلاصها من هذا التساؤل، أن المعادلة الرئيسة في الصناعة يجب أن تستند على توازن الإنتاج الصناعي كطرف أول مع سوق الاستهلاك المحلي والتصدير الخارجي كطرف ثان. فمن خلالها تتم جميع الدراسات والمشاريع الصناعية المقترحة بناء على نسب متوازنة بين طرفي المعادلة. أما الاعتماد على صناعات أساسية أكثر من 70 % منها هو للتصدير والنسبة المتبقية للاستهلاك الإقليمي وليس المحلي فقط فهي مغامرة تضع الاقتصاد الوطني تحت رحمة تقلبات السوق الدولية.
ولعل من سبل خلق هذا التوازن هو التركيز على الصناعات التحويلية لمنتجات الصناعات الأساسية. فرؤية المملكة العربية السعودية 2030 وضعت من ضمن أهدافها دعم المشاريع المتوسطة والصغيرة، وعلى أمل أن تجتزأ المشاريع الصناعية منها النصيب الأوفر ولكن على أن تكون المواد الأولية لهذه الصناعات من المواد الأساسية المصنعة محليًا. وهذا التوجه لا أظنه ويجب ألا يكون مقتصرًا على الصناعات العسكرية فقط بل جميع الصناعات لكي نستطيع من خلاله خلق قاعدة صناعية قوية وداعمة للاقتصاد الوطني.
2-2 - دعم المشاريع الصناعية لإنتاج الطاقة المتجددة: فمن ضمن الالتزامات التي حملتها رؤية المملكة العربية السعودية 2030 هو دعم صناعات الطاقة المتجددة. قد لا أكون مبالغا أو متعاطفا مع هذا الالتزام تحديدا لملامستها جانبًا مهمًا من اهتماماتي العلمية والعملية، إلا أن طرح مثل هذه الأفكار بهذا العمق الإستراتيجي وربطها ببعض الثروات غير المستغلة بالمملكة العربية السعودية قد أدهشني كثيرا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق التفكير بجمع كل المدخلات المتوافرة وتأطيرها بشكل متناغم للحصول على أفضل المخرجات. فمن المعروف أن مادة السيلكون تعتبر من أهم مواد التكنولوجيا المتقدمة فهي تدخل بشكل كبير في الصناعات الإلكترونية ورقائق الخلايا الشمسية، وتُعد الرمال هي المصدر الرئيس لهذه المادة. كما دخلت المواد العضوية حديثًا في مجال أبحاث وتطوير رقائق الخلايا الشمسية. فبنظرة سريعة نجد أن المملكة العربية السعودية تستحوذ على ثروة هائلة من مادة السيلكون والمواد العضوية. ولكن هذه المواد وغيرها قد لا توجد في الطبيعة بشكلها المثالي للاستفادة منها، فعليه يجب أن تكون التوجهات العلمية لدى مراكز الأبحاث للعمل والتركيز على كيفية وتطوير الطرق الصناعية للاستفادة القصوى من هذه الموارد الطبيعية، وإلا ستبقى ثروات غير مستغلة.
2-3 - توطين التقنيات الصناعية والأبحاث والتطوير:
فقد تضمنت رؤية المملكة العربية السعودية 2030 الالتزام بتوطين التقنيات والأبحاث والتطوير في المجالات الصناعية، وفي مجال الطاقة المتجددة تحديدًا. وكما سبق ذكره أن مادة السيلكون هي إحدى أهم المواد لصناعة الخلايا الشمسية لإنتاج الطاقة. وهنا يكمن تحدٍ جديد بتوطين التقنيات المناسبة للاستفادة من هذه المادة وجعلها من أهم المواد الإستراتيجية. فلا يخفى على أي شخص متخصص صعوبة الاستفادة من الكثبان الرملية التي تحتويها المساحة الشاسعة للمملكة وتحويلها إلى مشتقات سيلكونية مفيدة، ولكن الأمر الأصعب هو الاستمرار في تجاهل أهمية هذه الثروة والزهد حتى بأجر الاجتهاد والمحاولة. فمن الحكمة وبعد النظر توجيه قنوات الأبحاث العلمية نحو التعلم ومحاولة تطوير طرق صناعية لاستخلاص هذه المادة وإنتاج مشتقاتها صناعيًا بالتوازي مع قنوات أخرى تسعى إلى استقطاب ونقل تقنيات هذه الصناعة وتوطينها.
فقد نجحت المملكة العربية السعودية في العقود الزمنية الماضية من توطين تقنيات أشهر صناعتين في العالم الحديث وهما النفط والبتروكيماويات. فبالتالي فإن توطين تقنيات الطاقة المتجددة لن تشكل عائقًا كبيرًا متى ما وجدت الإرادة. وما التزام الرؤية وعرابها الأمير محمد بن سلمان لهذا القطاع إلا إيمانًا بأهمية هذا القطاع الصناعي. وقد ربطة الرؤية توطين التقنية والأبحاث والتطوير بشكل تسلسلي، وهذا بلا شك ترابط ذكي وفعال. فللمملكة العربية السعودية نجاحات متميزة بتوطين التقنيات، ولكن تبقى الأبحاث وتطوير تلك التقنيات تشكل الهاجس والتحدي الأكبر لكل صناعة. لأن التقنيات تتطور بشكل سريع وقد يسهل الحصول عليها ولكن لن تستطيع أي صناعة بالمحافظة على النجاح والمنافسة ما لم ترتبط تلك الصناعة بالتطوير الدائم، ولن يكون هناك تطوير بدون أبحاث، ولن يكون هناك أبحاث بدون استثمار حقيقي في التعليم والقوة البشرية. وهذا التسلسل هو تحديدًا ما أردت الإشارة والتركيز عليه في هذه السطور.
ختامًا هذه الرؤية ترسم ملامح المستقبل للمملكة العربية السعودية لتكون في الصفوف الأولى للدول المتقدمة ذات الثقل السياسي والقيمة الاقتصادية المتينة وذلك بالانتقال من اقتصاد المصدر الأحادي إلى اقتصاد متعدد ومتنوع المصادر تتشارك فيه جميع شرائح المجتمع. نعم هو تحدٍ كبير يحتاج إلى الكثير من العمل والجهد لوضع الخطط التنفيذية والآليات التفصيلية لمسارات العمل وتحقيق الأهداف والالتزامات. لذلك يجب علينا الإيمان بقدراتنا والتحلي بالثقة في النفس والتعلم من الأخطاء فمن لا يخطئ لا يعمل. فلنترك الانتقاد والتثبيط وننظر للمستقبل بروح التحدي والإصرار على النجاح. هذه الرؤية هي خطة عمل لمشروع كبير أعضائه الفاعلين هم أفراد المجتمع، مواطن ومقيم، صغير وكبير، ذكر وأنثى. لا نريد انتقادًا بلا عمل ولا نريد عملاً بلا انتقاد، فالعمل وانتقاد العمل هما وجهان لعملة النجاح، متى ما كان الانتقاد هو المسعى الحقيقي لإتقان العمل وليس للانتقاص منه.
- د. عبد الملك بن طالب