ما هو الاختلاف الذي صنعته ألـ 27 عاما الأخيرة من عمر أمريكا؟ ففي عام 1989 نشر المفكر الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما مقالته الأشهر «نهاية التاريخ» في مجلة «ذا ناشيونال إنترست» الأمريكية الفكرية المرموقة التي أفخر باشتراكي في تحريرها. في هذه المقالة كتب فوكوياما يقول «ما نراه الآن ربما لا يكون نهاية الحرب الباردة ولا مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكننا نرى نهاية التاريخ كما نعرفه، نهاية مرحلة التطور الأيديولوجي للبشرية لتسود الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للحكم البشري في العالم». وهنا قلت إذن «لا يوجد تاريخ جديد .»
لكن كما قال الكاتب الأمريكي الشهير مارك توين من قبل، فإن سجل وفيات التاريخ يؤكد أن هذا التاريخ مازال صبيا لم ينضج بعد ونشر الديمقراطية الليبرالية الغربية مازال هدفا بعيدا كما كان الحال أثناء فترة الحرب الباردة. ورغم أن التاريخ لا ينتهي أبدا، فإنه قد يعيد نفسه. فالكثير مما نراه الآن هو تكرار للكثير من الأمور القديمة. والنموذج التاريخي الحالي أكثر تصدعا مما تم رسمه بوضوح على أساس القطبية الثنائية للعالم في سنوات الحرب الباردة.
وفي حين نجحت الولايات المتحدة في الخروج من الحرب الباردة كقوة عظمى وحيدة لكنها تواجه التقلص الذاتي، مع ظهور قوى إقليمية مثل الصين وإعادة إحياء القوة الروسية عسكريا إن لم يكن اقتصاديا في ظل قيادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى جانب التكتلات الاقتصادية التي تنافس الولايات المتحدة مثل الاتحاد الأوروبي فإن العالم يصبح مسرحا لأفكار مهيمنة متصارعة وليس لفكرة مركزية مسيطرة. أضف إلى ذلك انتشار ظواهر خطيرة عابرة للأمم وللأقاليم مثل التطرف ، لترى أننا نعيش عالما متعدد الأقطاب إن لم نقل شديد التقلب وهو ما يعني أن بناء هذا «النظام العالمي الجديد» الذي اعتدنا سماع الحديث عنه كثيرا يصبح أمرا أشبه بوهم كبير.
إذن إلى أين نتجه من النقطة الراهنة؟ الكاتبان جاكوب جيه. جريجيال، وأيه. ويس ميتشل مؤلفا كتاب «الجبهة المضطربة: الخصوم الصاعدون والحلفاء المعرضون للخطر وأزمة الأسر الأمريكي» لديهما بعض الاقتراحات المفيدة التي تستحق المناقشة الجادة. ففكرتهما المحورية هي أهمية احتفاظ الولايات المتحدة بشبكة تحالفات قوية وذات مصداقية مع الدول وبخاصة الصغيرة والضعيفة نسبيا، التي تدور حول ما يقول المؤلفان إنها قوى ثلاث صاعدة، وهي القوى الإقليمية الرجعية التي تمثلها روسيا والصين وإيران. شبكة التحالفات تلك موجودة حاليا، لكنها أصبحت أكثر اهتراء لآن «أعداء وحلفاء الولايات المتحدة يتفقون تقريبا في إدراك التغييرات المتسارعة في قدرات وسلوكيات الولايات المتحدة كقوة عظمى».
يرى المؤلفان أن إحياء التزام الولايات المتحدة بمصالح حلفائها الإقليميين هو علاج وقائي فعال بشكل عام. في الوقت نفسه فإن القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا تبحث دائما عن «تغيير منخفض التكاليف ومكاسب هامشية تتيح لها أعلى مردود جيوسياسي ممكن بأقل ثمن استراتيجي ممكن. وعلى هذه القوى أن تدرك الرد المحتمل من جانب القوة العظمى على تصرفاتها قبل أن تتحرك تلك القوى».
وهذه نصيحة عامة جيدة، والمؤلفان عادة ما يعززان هذه النصيحة بالمزيد من التفاصيل. ولكن في عالم مظلم ويعاني من السيولة، فإنهما أحيانا يبدوان وكأنهما يحاولان لعب مباراة شطرنج على رمال متحركة. وإذا كان هناك انتقاد يمكن توجيهه إليهما، فهو أنهما يتبنيان منهج «مقاس واحد صالح للكل»، في توصيف الخصوم المحتملين للولايات المتحدة. لذلك فهما يعتبران الصين وإيران وروسيا «قوى متوحشة تاريخيا»، رغم أن كل دولة من الدول الثلاث تختلف تماما عن الدولتين الأخريين. وحدها فقط روسيا هي التي تبنت باستمرار النمط العدائي الاستعماري الذي قد يعود إلى عصر القيصر بطرس الأكبر أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. أما الصين ورغم أنه يمكن اعتبارها قوى عظمى محتملة اقتصاديا وعسكريا، فإنها تاريخيا كانت أكثر تركيزا على حماية أراضيها الشاسعة من أطماع الأخرين أكثر من سعيها إلى التوسع أو غزو الدول المجاورة. ورغم أن تعاظم القوة العسكرية والبحرية للصين يمكن أن تكون سببا للقلق، فإن الحقيقة هي أن تعاظم القوة الاقتصادية للصين ربما يمثل حاليا التحدي الأكبر. وأخيرا نصل إلى إيران، فنرى أن سلوكها العدائي لم يكن واحدا من الناحية التاريخية منذ اجتاح الأسكندر الأكبر الإمبراطورية الفارسية القديمة منذ آلاف السنين. فعلى مدى القرون الماضية ظلت إيران مقسمة أو محتلة أو خاضعة لاستغلال أطراف عديدة، سواء العرب الذين فتحوها تحت راية الإسلام أو القوى المجاورة مثل الإمبراطورية الروسية أو الإمبراطورية العثمانية وصولا إلى التحالف النفطي البريطاني الأمريكي في القرن العشرين. ورغم أن روسيا وإيران والصين تمثل تحديات خطيرة بالنسبة للقيم الغربية والمصالح الأمريكية، فإن أوجه الشبه بينها قليلة للغاية مقارنة بالدول الثلاث التي أطلق عليها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش تعبير «محور الشر» الذي ضم العراق وإيران وكوريا الشمالية.
آرام باكشيان - أحد مساعدي الرؤساء الأمريكيين السابقين ريتشارد نيسكون وجيرالد فورد ورونالد ريجان