«الجزيرة - الطبية»:
معظم الرحلة يمر عبر الربع الخالي وهو عبارة عن مئات الكيلومترات من المساحات المنبسطة من الصحراء ذات اللون الكميت. ثم بعد أن يترسخ في ذهنك أن هذا هو المشهد الوحيد الذي لن ترى سواه - إذا بجبال ظفر تظهر لك في الأفق.
في الجانب الآخر هناك أودية خضراء، يرتع فيها البقر. فظفر تلتقط بقايا الأمطار الموسمية القادمة من شبه القارة الهندية، مما يجعل المنطقة العمانية من أينع مناطق شبه الجزيرة العربية.
والشتاء الدافئ والصيف الماطر هو ما تحتاجه شجرة الكندر لتفرز نوعا من الصمغ يسمى اللبان. هذا النوع من الأشجار، من النباتات البرية، وقد أخذني محمد الشحري، المرشد السياحي، إلى وادي الدوكة الذي يبعد بحوالي عشرين كيلومترا عن مدينة صلالة، لرؤية غابة منها.
ويقول الشحري: «تشير الوثائق التاريخية إلى أن إنتاج اللبان يعود إلى 7000 قبل الميلاد». ثم يأخذ سكينا عسكريا -لقد كان عضوا في قوات السلطان الخاصة- ينقر بها جذع شجرة من أشجار الكندر، لتظهر بعد ذلك قطرات دقيقة من سائل أبيض كاللبن، سرعان ما تنضح به الشجرة.
ويضيف المرشد السياحي قائلا: «هذه ليست سوى الثلمة الأولى. أنت لا تجمع ما ينضح منها من عصارة. إنها تخلص الشجر من النفايات التي يفرزها الخشب. يعود المزارعون بعد أسبوعين أو ثلاثة، ليحدثوا ثلمة ثانية، ثم ثالثة. بعد ذلك ينضح السائل الصمغي أصفر أو أخضر متلألئا، أو بنيا أو حتى أسود اللون. وهذا ما يجنونه».
بعد ذلك بقليل، وصل مزارع لبان على متن سيارة من طراز البيك آب، لحيته بيضاء، ويرتدي ثوبا بني اللون وعمامة عمانية تقليدية؛ إنه سالم محمد من آل جداد، البالغ من العمر 67 سنة، ووادي الدوكة ملكه.
سلعة قديمة
كان اللبان يصدر على ظهور الجمال إلى مصر، ومن هناك إلى أوروبا. ومن ميناء سمهران القديم إلى فارس والهند والصين. وقد اعتمدت الديانات اللبان بخورا يحرق أثناء أداء بعض الشعائر الدينية.
وقد تراجعت تجارة اللبان العمانية قبل ثلاثة قرون بعد أن نازع البرتغال عمان السيادة على الطرق البحرية في المحيطين الهندي والهادئ.
وفي الوقت الراهن، لا يُصدر من اللبان العماني سوى القليل. والسبب إلى حد ما يعود إلى أن الكنيسة الكاثوليكية تشتري الصنف الصومالي من اللبان، الأرخص ثمنا. كما يعود جزئيا إلى أن العمانيين ينتجون كميات أقل.
ويقول سالم محمد جداد: «قبل عشرين سنة، كانت 20 أسرة تشتغل في زراعة اللبان، لكن في الوقت الراهن تستطيع الشبان الحصول على عمل حكومي أجرته محترمة، في شركات النفط، مع إمكانية الحصول على المعاش. الآن لا يشتغل في هذا القطاع سوى ثلاثة أشخاص. إن التجارة في الواقع هزيلة، هزيلة جدا».
علاج للسرطان
ويأمل الخبير في علم المناعة محمود سهيل بأن يفتح فصلا جديدا في تاريخ اللبان. فقد تمكن العلماء من ملاحظة كيف أن اللبان يحتوي على عامل يمنع السرطان من الانتشار، يؤدي بالخلايا السرطانية إلى التوقف عن النمو. لذا فهو يحاول معرفة السبب.
ويقول سهيل: «يبدأ السرطان عندما تُصاب شفرة الدنا (DNA) لنواة الخلية بالعطب، ويبدو أن اللبان يحتوي على وظيفة لتقويم هذا الخلل. إنها تستطيع أن تقول للخلية شفرة الدنا الصواب».
وبتعبير آخر: «يفصل اللبان ‹دماغ› الخلية السرطانية -النواة- عن ‹البدن› -السيتوبلازم أو الحشوة-، ثم تغلق النواة لمنعها من إنتاج شفرة الدنا الفاسدة».
حاليا يقصف الأطباء المنطقة المحيطة بالورم السرطاني خلال الجلسات العلاج الكيميائي، لكن هذا العلاج يدمر الخلايا السليمة كذلك، مما يُضعف المريض. وقد يمكن اللبان من استئصال الخلايا السرطانية لوحدها، والإبقاء على الخلايا السليمة.
وتنحصر مهمة العلماء الآن في عزل هذه المادة في اللبان والتي يُعتقد أنها تجترح هذه المعجزة. لأن اللبان يحتوي على مواد تثير حساسية، لهذا لا يمكنه وصفه لجميع المرضى.
ويعمل الدكتور سهيل - وهو في الأصل عراقي- بتعاون مع علماء طب من جامعة أوكلاهوما على إنجاز هذه المهمة.
ففي مختبره بصلاله يستخلص جوهر اللبان. ثم بعد ذلك يعزل المواد المكونة لهذا الزيت، من قبيل حمض الكندر.
ويقول الدكتور سهيل: «هناك 17 عاملا فعالا في الزيت المستخلص من اللبان، ونحن نستخدم منهج الإقصاء. لدينا مثلا مصابون بالسرطان، فرس في جنوب إفريقيا- نعطيه جرعات من كل عامل على حدة إلى أن نعثر على العامل المنشود».
«بعض العلماء يعتقد أن حامض الكندر هو العنصر المفتاح. لكنني أعتقد أن هذا خطأ. فكثير من جوهر الزيوت - مثل زيت الصندل- تحتوي على حمض الكندر، لكنها لا تساعد على مكافحة السرطان. لهذا فقد بدأنا من جديد».
ستسغرق التجارب أشهرا، وكيفما كانت النتائج فقد تستغرق وقتا أطول للتأكد من فعاليتها. لكن كل هذا ليس إلا طرفة عين في تاريخ اللبان.
فقبل 9 آلاف سنة كان العمانيون يجمعونه ويحرقونه لخصائصه الاستشفائية والتطهيرية. وقد يكون أحد مفاتيح علوم الطب في المستقبل.