تحدثني نفسي بالصبر رغم مذاقه المر أمر من الصَّبر هو أحلى الأمرين. يسألني قائلاً ما بك يا صاحبي أنت حزين؟ أجيبه بلباقة «لست بالحزين يا سيدي، بل متألم؛ فالأيام تمضي وقلبي يعتصره الشوق. أحببتها بصدق فحالت بيني وبينها حواجز ومسافات طويلة من صروف الحياة.. أقلها شأناً هذا الكوخ الكئيب الذي لا يحجب عني البرد، ولا يجعلني أطمئن أبداً على مستقبل مكتبتي الصغيرة..
أكلّما عنّت سحابة في السماء وأمطرت أقول في نفسي اليوم ستغرق، ولا أرتاح حتى تهدأ السحابة، ويكف المطر؛ لأتفقد الكوخ؟.. ويحي يا صاحبي، أنا لا أستمتع بالمطر رغم حبي له؛ لأنه يوقظ الخوف في قلبي..
حين تسود السماء غيمة في الماضي وكنت صغيراً، ترافقها طيور السحاح كما يسميها الأهل، وحشرات السعابيب التي تشبه الفراشات، لولا أنها عديمة الألوان، أقضي اللحظات القليلة قبل أن تفيء سحابة الغيث، وتغدق في اللعب، أطارد الطيور الخضراء، وأحاول اصطياد الحشرات المطرية، ولا يمهلني الخير فرصة للدخول إلى الخيمة دون أن يبلل أسمالي البالية.. ألجها منضماً إلى أبوي وإخوتي، نتحلق حول النار تحت قبتها لساعات نحتسي قهوتنا وبعض الشاي الجمري. نخرج للحظات، ثم نعود إذا خالجنا البرد. لم أشعر يوماً بالخوف من المطر، بل أرى الابتهاج يعلو الوجوه الطيبة..
صديقي يبوح ببعض ما يجول في خاطره تجاهي، ويتهمني بالجنون والوسوسة كما يحلو له. قال لي: أنت موسوس مطر. وفي كل مرة يراني فيها يذكّرني بما كنت عليه من الصلاح والتدين. أتذكر عندما كنت تؤمناً في الصلاة؟ أنسيت هيئتك الجميلة، وذلك النور الذي كان يسري في وجهك أراه خفت الآن بما أصابك من وسواس؟.. يجبرني بهذه الشكوى على التفلسف والرد، أو الهرب من محاصرته. ذكّرته يوما بما قال روسو عن شقاء الإنسان بالمعرفة، وكيف تنبأ بندمه حين يصل به الحال إلى التضرع إلى الله بأن يعود جاهلاً كما ولدته أمه.
يغضب عبدالله من سيرة روسو، ويهرب وهو يتمتم بالاستغفار وتجديد التوبة.. أنشغل عنه بصوت الرعد المجلجل الذي يخترق أذني. يا إلهي، هل دعا علي صديقي؟ يا لها من صداقة. ازدادت ضربات المطر على سطح الكوخ. يبدو أن البرد الكثيف بدأ يتراكم على سطحه الآن. أحس بالثقل الشديد على كاهله المنهك. أشاهد من خلال الكوة الصغيرة في جداره كمية المطر والبرد تنهمر بشدة مع انخفاض إيقاعها على السقف، بل يكاد ينعدم، وبدأ الخوف يعتريني..
انتعلت حذائي. وقفت أمام أكبر كتاب في مكتبتي سناً. إنها المقدمة، أحسبها بمنزلة أم لي من الرضاع.. ودعتها، شعرت بها تستجدي أن أحملها معي. اعتذرت لها لأني أضمرت شراً في نفسي بالخروج من دائرة البؤس التي أدخلتني فيها بتلك الرضعات البائسة، وعليها أن تواجه المصير مع إخوتها الآخرين. هنا يا أم البؤساء سيكون قبرك. وداعاً، وداعاً..
دفعت الباب الخشبي «المخلع»، وما إن استويت واقفاً في الشارع المقابل تحت مظلتي محولاً وجهتي بالتفاتة سريعة؛ كي ألقي نظرة وداع، حتى التقت عيناي بهول انقضاضة الكوخ، وتحوله إلى كومة من تراب.. وداعاً يا صومعتي، وداعاً يا رفاق البؤس. اغتسل قلبي بدمعتين ساخنتين، وأنزلت مظلتي لأجد برد المطر وصقيع البرد؛ علَّني أتطهر..
- سعود آل سمرة