نجيب الخنيزي
المفارقة اللافتة هي الشعور والهاجس المشترك المتمثل في التشاؤم وفقدان اليقين والإحباط والاغتراب والتهميش المسيطر على قطاعات واسعة ومتزايدة من الناس في العالم بغض النظر عن تباين المجتمعات واختلاف مناطق تواجدهم (جغرافيا) أو منحدراتهم العرقية والدينية والاثنية والثقافية، أومكانتهم الاجتماعية ومستوى معيشتهم، فالهم الإنساني المشترك هو نتاج هذا التداخل والتشابك لكافة القضايا المصيرية التي تواجهها البشرية فالعولمة هي المرآة المقعرة التي تكشف كافة القضايا ومناحي الحياة البشرية في رؤية واحدة تطفو على السطح بقوة وعمق أكثر من أي وقت مضى، مثل مفردات وقضايا الحرب والسلام، والمخاطر البيئية (تلوث واحتباس حراري)، الفقر، البطالة، المديونية، الإرهاب والتطرف... التقدم والتخلف، واتساع الهوة والاستقطاب بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم وفي داخل كل بلد، ودور التكنولوجيا والعلم ووحدانية تحكم القوة وانعدام التكافؤ والمساواة، في عالم لا يزال يفتقر إلى العدالة والحرية وحق تقرير المصير وسيادة القانون وحقوق الإنسان والديمقراطية. فالقضايا والتحديات التي دشنها القرن العشرون المنصرم لا تزال تتمتع بحضورها وراهنتها ربما أكثر من أي وقت مضى. صحيح أن القرن العشرين هو أكثر القرون حسماً في تدشين انتقال البشرية إلى مرحلة جديدة من حيث التطور الحضاري والتقدم العلمي والتكنولوجي العاصف غير أنه في الوقت نفسه من أكثر القرون التي مرت في تاريخ الإنسان من حيث حجم الدمار والخراب والدماء التي سالت من أجل تحقيق المطامح والمطامع الأنانية المفرطة للقوى المتسلطة، استطاعت خلالها الرأسمالية السائدة توحيد العالم وفقاً لمصالحها وعلى شاكلتها والانتقال به والتكيف معه ابتداء من المرحلة الكولونيا لية (الاستعمار) ومروراً بالإمبريالية وأخيراً عبر العولمة (المرحلة الراهنة في تطور سيطرة رأس المال) التي نعيش إيقاعها اليوم والتي يعتبرها منظرو العولمة والليبرالية الجديدة أنها تمثل نهاية التاريخ وخاتمة البشر.
شهدت البشرية منذ أواسط القرن التاسع عشر محاولات وتجارب هامة (مسرحها الغرب في الغالب) على المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية للتحرر من سلطة رأس المال وهيمنته الغاشمة. وتمثل ذلك في التجديد الفكري والاستنارة والعقلانية والجهد المعرفي والكفاح الذي قاده المفكرون والمناضلون والنقابات العمالية والأحزاب السياسية ومختلف تكوينات المجتمع المدني التي نجم عنها المواجهات والصدامات بين العمل ورأس المال، وتشكل ما يعرف بالأمميات الثلاث، وبلغت ذروتها في ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا بقيادة البلاشفة وما أعقبها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازية من انقسام أوروبا والعالم إلى معسكرين متضادين المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة. واستمرت المواجهة بينهما (الحرب الباردة) لعدة عقود حتى سقوط جدار برلين وانفراط المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفيتي. ومن الواضح أن الثورة الروسية كانت تمثل أول رد عملي في تحدي تسلط رأس المال بغض النظر عن الطريق المسدود والمآل التاريخي الذي آلت إليه لأسباب وعوامل مختلفة. ومع أن معظم شعوب العالم الثالث التي تم إخضاعها من قبل نظام السيطرة الاستعمارية الغربية بشكلها المباشر (الاستعماري) وغير المباشر (الإمبريالي) استطاعت تحقيق استقلالها السياسي وإنجاز خطوات ملموسة على صعيد التنمية والتطور الاقتصادي المستقل، غير أن الرأسمالية بفضل مرونتها المدهشة وقدرتها على إدارة أزماتها الدورية أو الهيكلية باقتدار، واستفادتها من التطور العاصف للتكنولوجيا والعلوم في مختلف المجالات، وعبر تقديم التنازلات الضرورية في الميادين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خصوصاً إبان احتدام المواجهة مع الاشتراكية وحركات التحرر الوطني حيث استطاعت استعادة زمام المبادرة وإعادة فرض هيمنتها من جديد، وبالطبع فإن هذا يعود جزئياً إلى الاخفاقات أو الممارسات والتجارب الفاشلة التي مرت بها التجارب الاشتراكية وأنماط محاولات التنمية المستقلة والمتمحورة على الذات، وتبدى خصوصاً في مجال الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والمشاركة الشعبية والتداول السلمي للسلطة، على الرغم من الإنجازات التاريخية الملموسة التي تحققت في حينها. غير ان الأزمة الاقتصادية الأخيرة ومنذ عام 2008 التي عصفت باقتصادات المراكز الرأسمالية المتقدمة وخصوصا الولايات التحدة الأمريكية وأروبا واليابان، والتي لا تزال ذيولها عميقة وممتدة على صعيد العالم ككل، وهو ما فرض إعادة النظر في مدى مواءمة الرأسمالية وخصوصا الليبرالية الاقتصادية الجديدة وقوانين السوق الغابية مع تطلعات ومصالح الأغلبية الساحقة من البشر.
أما في البلدان النامية فإن قصور وفشل التنمية المستعارة وسيادة النظم المستبدة التي ينخرها الفساد ومصادرة الحريات والحقوق الأساسية للإنسان أوقع تلك البلدان من جديد في أحضان التبعية والإلحاق واستعادة المجاميع الكمبرادورية والمتحالفة والمرتبطة عضوياً بمراكز السيطرة العالمية لهيمنتها الاقتصادية والسياسية من جديد.