«فجأة.. ستشعر بالوحدة الموحِشة.. حين تتخلّى عن عزلتك»!
غوته
4- خيوط السرد:
كان «المكان المختلِف» هو الخيط السردي الناظم لفصول هذه السيرة، وتجليات هذا المكان لا تظهر فقط في هذا العرض المشهدي للأحداث التي صاحبتْ تجربة الابتعاث من بدايتها حتى نهايتها، بل أيضاً فيما يلمسه القارئ من حرارة التعبير، وآنيّة الانطباعات في بعض فصول الكتاب؛ حتى لتظنّ أحياناً أن الكاتبة دوّنت هذا الفصل أو ذاك في المكان نفسه الذي جرتْ فيه أحداثه، لكنّ هذا الحكم غير مطّرِد، فقد كان العرض المتواصل للأحداث يُكسَر أحياناً بالعودة إلى البدايات؛ عبر التذكّر واسترجاع الماضي على طريقة «الفلاش باك»؛ كما حدث مثلاً في فصل: أجنبية، وكذلك في الفصول التي تُستعاد فيها ذكريات الطفولة؛ وبخاصة ما يتعلق بالجدّة وحكاياتها التي كان لها حضور لافت في السيرة.
على أن عناوين الفصول لا توحي بالتسلسل الزمني للأحداث، فقد صيغت بأسلوب موضوعي أقرب إلى التصنيف العلمي؛ مثل: الأخريات، أجنبية، البيضة، سينما، الدراجة، رائحة الخبز، مع استثناءات قليلة بدا فيها العنوان موارَباً وغير مباشر؛ مثل: نمّارة، كستناء ونخيل، ومن اللافت: كثرة فصول هذه السيرة الموجزة، فقد زادت على عشرين فصلاً، ومعظم الفصول قصيرة النفَس لم تتجاوز عِدّة كلٍّ منها: أربع صفحات، وهو ما يؤكِّد الاستنتاج السابق بأن هذه السيرة كُتِبتْ بوحي اللحظة الراهنة، وعلى فترات متقطِّعة ومتباعدة.
ما أثر هذا كله في شدّ خيوط السرد أو إرخائها؟.. لتنذكّر الآن الإشارة التجنيسية المكتوبة على غلاف الكتاب: (قصص قصيرة)، وسنرى عندئذ: كيف عبّرت هذه الصيغة الجماعية التي يشير إليها هذا التركيب عن طبيعة البناء السردي للسيرة المتّسِم بالتوقف المتكرر، ثم الاستئناف المتجدِّد للأحداث، ومع هذا فقد كان لهذه السيرة منطقها السردي المتماسك والمعتِمد على الوحدة المكانية لأحداثها، وظلّت مدينة (فرايبورغ) بساحاتها، وممراتها، ومحلاتها، وأمطارها، وبحيرتها المجاوِرة، وريفها الممتد، وسكّانها: بملامحهم الهادئة، وحياتهم المنضبِطة، وردود أفعالهم المتحفِّظة هي الحاضن السردي الجامع لأحداث السيرة وتأملاتها؛ حتى في المواضع التي ابتعد فيها التداعي عن حدود المكان والزمان كان هناك دائماً ما يشدّه إلى بؤرة الحكاية وشجن الاغتراب؛ وكأنه امتداد طبيعي لخيوطها السردية؛ ربما باستثناء الفصل الذي حمل عنوان: البيضة، فقد بدتْ فيه حكاية الجدّ مع البيضة؛ وكأنها خارجة عن سياق الكتاب؛ بسبب ما اتسم به التداعي الاسترجاعي لها من توسع وامتداد واستقلال عن أجواء السيرة.
5- الأرض المتحرِّكة بين ثقافتين:
أمّا اليقينُ فلا يقينَ وإنما أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدِسا
أبو العلاء المعري
يحدث كثيراً أن تتشظّى الذات.. أن تنقسم على نفسها.. أن تتحول إلى جزر منفصلة فيما بينها، وتصبح الوظيفة الأهمّ للحياة هي: القفز المستمر بين هذه الجزر المنعزلة داخل الذات؛ مع التظاهر الدائم أمام الناس بالطمأنينة السابغة، والانسجام التام مع الأقنعة المتبدِّلة.. ذات يوم صادفتْ هذه المغترِبة السعودية في أحد شوارع فرايبورغ فِرقة مكوّنة من ثلاثة شُبّان تطلب من جميع المارة أن يقفزوا في لحظة محددة، فيستجيب الجميع ما عدا هذه المغترِبة، فيُعاد الطلب مرةً ثانية، وثالثة؛ مع تركيز النظر على هذه المتمنِّعة المرتبِكة.. ما الذي جعل أرجلها تتسمّر في الأرض كلّ مرة؟ ولماذا كانت ثقيلة إلى هذا الحدّ؟.. أكانت حقاً مجرد قفزة أرجل في الهواء أم انتزاعاً للنفس من جزيرة منعزلة إلى جزيرة أخرى مجهولة، وخوفاً مستبِداً من السقوط في الفجوة المرعبة بينهما؟
تكاد هذه السيرة بمجمل أحداثها وفصولها أن تكون هي: حكاية هذه القفزة المرتبِكة في الهواء الطلْق!.. وقد صنعتْها المغترِبة أخيراً، فقفزتْ، ثم ظلتْ تقفز مِراراً بعد ذلك في تحدٍّ مقصود للذات المتردِّدة؛ ولكنّ هذا لم يغيّر شيئاً من الشعور المتجدِّد بالاغتراب، فكلّ خطوة باتجاه التأقلم مع الأرض الجديدة كانت في الوقت نفسه خطوة إضافية نحو الاغتراب أكثر عن الأرض القديمة! وكان أن تساءلتْ ذات وعي: «بين فرايبورغ والرياض توجد تفاصيلي، كتبي وأشيائي الصغيرة، أحياناً أشعر أنني معلَّقة بين هنا وهناك، وأحياناً أخرى أتساءل: أيّهما الـ(هنا) وأيهما الـ(هناك)؟.. أيّهما البعيد وأيهما القريب الذي يحتويني؟ وفي بعض حالاتي اليائسة كنتُ أشعر أنني لستُ هنا، وبالتأكيد لستُ هناك»!
هو إذن الانزلاق الحتمي في الفجوة العالقة بين: هنا وهناك، أو هي القفزة المندفعة في الهواء حين تجمِّدها لقطة تصويرية ثابتة، فلا يدري الناظر بماذا انتهتْ؟.. وهل انتهتْ فعلاً؟.. وربما لا تتراءى هذه الصورة المعبِّرة عن القفزة المجمّدة في الهواء بين أرضين كما تتراءى في ثلاثة مواضع من السيرة تمرّدتْ فيها الشخصية الهادئة على نفسها، فكان لها (تقليعاتها) المفاجئة التي تشِي بالارتباك المصاحِب للعبور بين ثقافتين؛ كما حدث في قصة حلْب البقرة في الريف الألماني، ثم حين بدا لها ذات صباح بارد في فرايبورغ أن تطلب من بعض العابرين أن يُخمّنوا عمرها، وأخيراً: الالتفاتة المفاجئة بعد العودة من الرياض إلى المصباح الخافت في الشقة.
غالباً ما تستدعي مثل هذه (التقليعات) ابتسامة عابرة؛ إذْ تُضفي نكهة من المرح على أجواء القصّ؛ لكنّ إعادة تأمّلها معاً قد تُفضي بالقارئ إلى اكتشاف ما تشير إليه هذه النتوءات البارزة على السطح من تغيرات أعمق تحدث في الطبقات الأكثر تجذّراً من كينونة الإنسان، على أن الصورة الأكثر تعبيراً عن هذه القفزة المعلَّقة، وعن انشطار الذات وتعدّدها إنما تتمثل في هذا الجدل المستمر على امتداد السيرة بين «النساء القابعات في الأعماق» حول ما يحسُن فعله، وما لا يحسُن، وحول كثير من (وجهات النظر) التي يتلقّاها معظم الناس بالقبول والتسليم: «لقد أصبحتُ لا أستجيب لليقين في أحاديث الناس، وأصبحتُ أستخدم: (ربما، لعلّ، قد يكون، لا أعرف)، إنني أستغرب هذا اليقين العميق في أيّ شيء تافه يتحدّثون به، والجدالات التي يخوضونها، حتى حينما تسألني صغيرتي وعيناها مليئتان بالتوجّس والقلق، ثم تلتهِم إجابتي بيقين، أخاف من النظرة التي تتملّكها بعد إجابتي، أريد لعينيها أن تظلا دائماً متسائلتين، مشكِّكتين؛ حتى تصنع يقينها بنفسها» .
6- الرجل والمرأة.. والعقدة الأزلية:
«تقتلني فكرة أنه كان يمكن أن أكون (الأهل): أن أكون هذه المرأة التي كانت في وقت ما قريبة مني، هل وراء كل رجل عظيم امرأة غبية؟ هل كنتُ محظوظة وربحتُ في اليانصيب؟»
حين تبدأ بقراءة هذه السيرة قد يلفت نظرك علوّ نبرة (الجندر) فيها؛ ولا سيما في الصفحات العشرين الأولى منها، فالمقارنة المستمرة بين الرجل والمرأة هنا وهناك تكاد لا تنتهي؛ وكأنما تعبِّر عن الإحساس بصدمة البداية التي شعرت بها الطبيبة المبتعثة تجاه تصرّفات زملائها من الأطباء السعوديين المبتعثين، والخصوصية السعودية المعروفة في التفريق بين التعامل مع المرأة السعودية، والمرأة الأجنبية، وهي الخصوصية التي لا تخلو من مفارقات وغرائب؛ ولكنّ الإلحاح على عرض النماذج المغايرة فقط؛ دون الموافِقة يستدعي النظر؛ مع أن في السيرة نفسها تجلّيات لافتة للرجل النبيل (الصفحات: 30-31، 42، 103)؛ لكنّ الكاتبة ذكرتْها عرَضاً وفي سياق آخر منفصل عن سياق العلاقة بين الرجل والمرأة.
هناك بالإجمال شعور فادح بالمرارة لا يفارق الكاتبة في حديثها عن هذا الموضوع؛ حتى حين تتكلم عن بنات جنسها، فهي تعرض جانباً من حياة زوجات المبتعثين السعوديين هناك، وتكشف عن مواقفهنّ (التقليدية) من الرجل، وعن اهتماماتهن الهامشية، ومدار أحاديثهن النمطية، والأهمّ: عن وعيهنّ المغيّب بأنفسهنّ، وفي مواضع متعددة من السيرة هناك جرد حساب بأثر رجعي لمظاهر تغييب المرأة عن الحياة العامة في السعودية، كما أن هناك نقداً مباشراً لأسلوب الرجل الشرقي المتناقض في التعامل مع المرأة، فحين يتحدث مثلاً عن زوجته يفضِّل وصف: الأهل، بينما لا يجد حرجاً في التعبير المنفتح عن المرأة الأجنبية ومعها؛ هذا بالإضافة إلى مظاهر سلوكية أخرى أكثر دلالة على الازدواجية الفادحة لدى الرجل في الموقف من المرأة، أو بتعبير أدق: في موقفه من الحياة!
وهذا النقد في مجمله نقد صائب وفي محله، ومع هذا لا تستطيع وأنت تقرأ هذه الإدانة المتواصلة للرجل وللثقافة الذكورية أن تمنع نفسك من تذكّر الأصوات المشابهة لها عند أعلام الحركة النسوية (الفيمنيست) حول العالم؛ وإنْ كانت بنبرة أكثر علوّاً وتجذّراً؛ كما هو الحال عند فرجينيا وولف، وسيمون دي بوفوار، وفاطمة المرنيسي، وقد تتساءل: هل الثقافة الشرقية وحدها هي التي تحمل هذه الازدواجية في التعامل مع المرأة؟ وهل هذا الاختلاف بين الرجل والمرأة في النظرة والتكوين والاهتمامات هو مجرّد (إكراه) مجتمعي أو بأثر من خصوصية سعودية؟ أليست أدبيّات المرأة في الآداب العالمية كلها –بما فيها: الأدب الغربي- تُلحّ دائماً على إبراز هذا الاختلاف بين الرجل والمرأة في الحساسية تجاه العالم؟
وقد لا يُفيد شيء في استحضار هذا الاختلاف في الحساسية كما يفيد تذكّر الثنائيات المشهورة: جون كنيدي وجاكلين، جان بول سارتر وسيمون بوفوار، دييغو ريفيرا وفريدا كاهلو، تشارلز وديانا: هناك دائماً جانب غامض في الرجل لا تستطيع المرأة الوصول إليه؛ ربما لأن الرجل نفسه غير مستوعِب لأبعاده، ولطالما دندنتْ الأعمال الأدبية والفنية حول هذا الجانب المتواري عن المرأة من شخصية الرجل؛ كما في: هاملِت لشكسبير، وبعد أن رحلْت لأليس آدمز، والحياة في مكان آخر لميلان كونديرا، والحي اللاتيني لسهيل إدريس، وبتعبير أكثر عفوية: أليس هذا هو تُفضي به إلينا كلمات: set fire to the rain لإديل، أليس هذا هو ما تقوله لنا فيروز أيضاً على لسان الفتاة الريفية الخجولة في عشرات المقاطع المتفرقة؟
من أفضل مزايا هذه السيرة أنها تجترح دائماً زوايا متعددة للنظر إلى المسألة الواحدة؛ ولهذا فهي حين تعود لإثارة هذا الموضوع الشائك في الفصول الأخيرة من السيرة تحكي حواراً دار بينها وبين بائعة ألمانية تبدو قلِقة من الانفتاح المبالغ فيه لدى الأجيال الجديدة في المجتمعات الغربية، وتتساءل: «من يدفع ثمن العلاقات العابرة سوى المرأة؟ المرأة متشابهة في كلّ مكان: هشاشتها وضعفها، الأقوى هو المنتصِر، ولم تكن مطلقاً قوية»، وينفضّ هذا الحوار وسؤال أعمق يتردد في ضمير الكاتبة على الرغم من مقاومتها له: «لا أريد أن أفكِّر: هل المرأة منهزمة حقاً في كل مكان؟».
ربما هي لا تريد أن تتوقف كثيراً عند هذا السؤال حتى لا يقودها إلى اليأس من محاولة تحسين الظروف المحيطة وتحقيق العدالة المنشودة؛ ولكن من المفترض أن يجعلنا هذا السؤال أكثر حذراً في تحديد الاتجاه الذي نسلُكُه، وفي تقدير المدى الذي نصبو إليه، والهدف النهائي الذي نروم تحقيقه، والكاتبة نفسها تشير ببراعة إلى فارق مهم بين الرجل والمرأة في تحديد معنى النجاح، فالمرأة بفطرتها تتجاوب أكثر مع المنظور التركيبي للنجاح، وليس الفردي كما هو حال الرجل. إنّ النظرة الإنسانية المتوازنة للمعاناة المشتركة بين الرجل والمرأة قد تُجنِّبنا الوقوع في دائرة المواقف العدائية المتبادلة، كما قد تُخفِّف من الصدمة التي تشعر بها المرأة حين تقف على بعض النماذج الرجالية الضعيفة التي تُسقط هيبة الرجل في نفسها كما تروي الكاتبة، والواقع أن الحساسية المستجِدّة عند المرأة تجاه الرجل إنما تنتج في الغالب عن مثالية التصوّر الأولي الذي كوّنتْه عنه وبُعده عن الواقعية؛ كأنّ الإيغال الأولي في تقدير الرجل ينعكس بعد التجربة إلى نقيضه المشابِه له في تطرّف التصوّر، وهو: الإيغال في الاستهانة به!
7- ملحوظات ختامية:
أ- لم تخلُ السيرة من أخطاء لغوية متفرِّقة؛ وبخاصة مع جمع المذكّر السالم، ومن منطلق نفسي: لم يكن غريباً أن تقع مثل هذه الأخطاء اللغوية مع هذا الجمع المزعج!
ب- في السيرة مقاطع كثيرة تجلّى فيها قلم الكاتبة كأحسن ما يكون، ومنها: وصف الرحلة الصباحية مع الدرّاجة في الفصل المخصّص لها، والخواطر المرتبطة بالبحيرة، وحديثها عن الأصوات العذبة القادمة من (البلكونة)، وتداعيات رؤية المقبرة في فرايبورغ، والفصل الأخير.
ج- هذا هو الأثر الأدبي الثاني الذي تُهديه إلينا طبيبة أسنان سعودية، بعد رواية: بنات الرياض لرجاء الصانع، ولا شك في تميز عمل الصانع من الناحية الفنية؛ لكن على مستوى الوعي: ثمة انتقال من مراهقة الاحتجاج إلى نضج التساؤل.