ترجمة وتعليق - حمد العيسى:
هنا ترجمة لتحليل اجتماعي - سياسي نوعي بقلم البروفيسورة دانييلا بيوبي.. والبروفيسورة دانييلا بيوبي هي زميل أول مشارك في معهد الشؤون الدولية في روما، وزميل باحث مؤقت في جامعة روما «لا سابينزا». ونشرت الورقة في ديسمبر 2013.
قمع مبارك ترك بصمات سلبية على كفاءة الإخوان التنظيمية
ولم تكن جماعة الإخوان المسلمين، التي تُعد أكبر قوة معارضة جماهيرية في مصر، استثناء من هذا الاتجاه العام. لقد ترك خضوعها الطويل لنظام استبدادي ولدورات قمع متكررة، وبخاصة منذ التسعينيات، بصماته على كفاءة الجماعة التنظيمية المعروفة وعلى تماسكها الأيديولوجي. لقد تعرّضت الجماعة، خلال 2006-2008، لأسوأ موجة من الاعتقالات منذ عهد عبد الناصر؛ وهو ما شكّل ضربة خطيرة للغاية لجماعة كان قد أصابها الوهن بالفعل. ونظراً لكثرة أعضائها المسجونين من المرتبة المتوسطة، واجهتِ الجماعة صعوبة في الحفاظ على هيكل وتسلسل القيادة الداخلي. (11) وأصبح هيكلها المركزي يعتمد اعتماداً متزايداً على الدور الحاسم للعائلات الموالية؛ في حين أن أنشطتها الاجتماعية المتقلصة كانت تُدار بشكل خاص وفردي وبدون تنسيق عام. (12) وبالإضافة إلى ذلك، سهّلت الانقسامات الداخلية وقوع تناقضات أيديولوجية وبروز اتجاهات فكرية مختلفة داخل الجماعة. وفي يناير 2010، انتخب مرشد جديد هو الدكتور محمد بديع، وهو عضو ينتمي إلى الاتجاه المحافظ داخل الجماعة (الاتجاه القطبي). ومن ثمّ، تعرض الاتجاه «الإصلاحي» (مثل عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب وإبراهيم الزعفراني) للتهميش. (13) ويفسر هذا الوضع - جزئياً - لماذا فوجئت الجماعة، بصورة أكبر من درجة تفاجؤ قوى المعارضة التقليدية الأخرى، بثورة يناير 2011، ولماذا كان ردها متأخراً وحذراً. فمنذ البداية، تميزت الثورة المصرية بمفارقة عجيبة؛ وهي أن أولئك الذين ثاروا لم يكونوا هم الذين استولوا على السلطة ولم يقدروا على صنع تنظيم مدني ليمثلهم في المرحلة الانتقالية ما بعد الثورة.
وبعد الانتفاضة غير المتوقعة والاستيلاء العسكري على السلطة، أدركت جماعة الإخوان بسرعة هائلة أنها تتمتع بميزة عظيمة لم تحلم بها مطلقاً؛ فمع عدم وجود أية حركة ثورية منظمة في المشهد وانحلال الحزب الوطني، أصبحت الجماعة - بدهياً - القوة السياسية المنظمة الوحيدة على المشهد المصري بعد نجاح الثورة. (14)
المرحلة الانتقالية التي قادها المجلس العسكري
(فبراير 2011 - أغسطس 2012)
وبعد تنحي مبارك في 11 فبراير 2011، استولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة على السلطة التنفيذية، ولكنه أعلن، على الفور، نيته الانسحاب من الحياة السياسية بعد الفترة الانتقالية التي يفترض أن تنتهي عند انتقال السلطة إلى رئيس منتخب.
وفي الأسابيع والأشهر التالية، عطّل المجلس الأعلى للقوات المسلحة المؤسسات السياسية والأمنية؛ (15) ولكنه رفض تنفيذ تدابير أكثر راديكالية، مثل التغييرات الثورية التي قام بها ثوار 1952 لإعادة تشكيل النظام. وعلى أية حال، لم يُطهر المجلس الأعلى للقوات المسلحة وزارة الداخلية بصورة جدية. ومن ثمّ، تمكنت هذه الوزارة، بسرعة، من إعادة تنظيم نفسها والبدء في ممارسة سلطتها القمعية من جديد، وغالباً بالتنسيق مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. (16)
ومع كون المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو المسؤول مؤقتاً عن السلطة التنفيذية، وكون وزارة الداخلية قد تأثرت بصورة طفيفة من الثورة؛ فقد كان الجزء المفقود من مثلث سلطة النظام المعتاد هو شريك سياسي قادر على ملء الفراغ الناتج من انحلال الجهاز السياسي للنظام السابق. ولعدم توفر بديل، اضطر المجلس الأعلى للقوات المسلحة لعقد اتفاق مع جماعة الإخوان، على الأقل حتى تتمكن فلول المؤسسة السياسية السابقة من البزوغ مجدداً من بقايا رماد الحزب الوطني أو حتى يبزغ لاعبون جدد غيرهم من المشهد السياسي المصري يقبلون بسيطرة المجلس عليهم. وفي النهاية، فإن منهج جماعة الإخوان المسلمين التقليدي الذي يتسم بالاعتدال والتدرج يمكن أن يكون ذا قيمة كبيرة في إعادة تشكيل النخب بصورة لا تنقلب تماماً على علاقات السلطة. (17) وخلف الخطاب المناهض للإسلامويين في وسائل الإعلام الغربية، بدا أنه حتى الولايات المتحدة تفضل تحالفاً إسلاموياً - عسكرياً في مصر، حيث يقدم الإسلامويون، الشريك الأصغر، الشرعية الشعبية وحكماً اقتصادياً جيداً، بشرط عدم تجاوز الخطوط الحمراء في قضايا السياسة الخارجية الإستراتيجية أو ديناميات السلطة الداخلية.
وفي هذه الأثناء، انهمكت القيادة المحافظة لجماعة الإخوان للإبقاء على أعضائها تحت السيطرة بعدما جادلت الكوادر الإصلاحية والأعضاء الشباب بأنه مثلما انتهى نظام مبارك الاستبدادي؛ فليس من الضروري التمسك بالقواعد الهرمية الحازمة والانضباط التقليدي الصارم داخل الجماعة. وكان العديد من أعضاء جماعة الإخوان يتوقون إلى الانضمام إلى زملائهم الثوار؛ لأن جماعة الإخوان فقط هي التي يمكنها أن تقدم خبرة عقود طويلة وشبكات اجتماعية كبيرة. (18) ولكن بالرغم من المشاحنات والانشقاقات الداخلية؛ فقد تمكنت قيادة الجماعة من تجنب وقوع انقسامات كبيرة، ونجحت في توحيد الصفوف حول مكتب الإرشاد المحافظ وحول خيرت الشاطر، نائب المرشد ورجل الجماعة القوي والمليونير الذي خرج للتو من السجن. (19)
وكخطوة أولى، أعلنت الجماعة، بوضوح، أنها قبلت، بدون تحفظ، خارطة الطريق التي وضعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة والتي دعت إلى مرحلة انتقالية تنظم فيها انتخابات برلمانية وتنجز خلالها إصلاحات قانونية بدلاً من تغييرات جذرية. ومن ثم، تخلّت جماعة الإخوان عن الثوار الذين ظلوا مرابطين في الشوارع وأولئك الذين يدعون إلى إصلاحات أعمق. (20) ومع استيعاب الجماعة تدريجياً لوزنها السياسي المتفوق مقارنة بكافة الموجودين معها في الساحة السياسية، أدرك الإخوان أنهم يمكن أن يُشكّلوا قوة استقرار مع ضمان فوز مريح في الانتخابات.
وفي 21 فبراير 2011، أعلنت الجماعة عن تأسيس ذراعها السياسية، حزب الحرية والعدالة، لتثبت أنها قادرة تماماً على مواكبة الأحداث. (21) وفي 30 أبريل، عيّن مجلس شورى الجماعة، الهيئة التشريعية الرئيسة لجماعة الإخوان المسلمين، محمّد مرسي رئيساً للحزب، وعصام العريان نائباً للرئيس، وسعد الكتاتني أميناً عاماً. ولم يكن من المستغرب أنهم، جميعا، يمثلون التيار المحافظ السائد داخل الجماعة. (22) وبالرغم من أن هذا الحزب انبثق مباشرة من جماعة الإخوان، ويقع تحت سيطرتها الصارمة؛ فإنه فتح أبوابه لعضوية جميع المصريين حتى من غير المسلمين. لقد أُسس حزب الحرية والعدالة ليكون الواجهة العامة المرنة لجماعة الإخوان المسلمين، التي استمرت تسير على قواعدها وأساليبها الصارمة والسرية. ولعل من نافل القول إن الحصول على العضوية الكاملة لجماعة الإخوان المسلمين كان يتطلب سنوات؛ وهو أمر مفيد لحركة سرية بغية اختبار ولاء المرشحين الجدد للعضوية جيداً، ولكنه ليس أسلوباً عملياً أو مقبولاً لحزب قانوني ربما يصبح حزباً حاكماً. وفي حين كشف الحزب عن مصادر تمويله وعضويته على النحو المطلوب من قبل قانون الأحزاب السياسية، فإن الجماعة لم تفعل ذلك بعد الثورة، بحجة انتظار حكم من المحكمة الإدارية على وضعها القانوني. (23) ويكمن السبب الآخر لعدم كشف الجماعة عن أسماء أعضائها وممتلكاتها علناً في الخوف من الاضطهاد في المستقبل؛ فيما لو أدت عملية التحول السياسي إلى ترتيب سياسي معاد للجماعة. (24)
وعلى أية حال، فقد أثبتت إستراتيجية الجماعة بعدم مواجهة القوات المسلحة والتركيز على الانتخابات نجاحها على المدى القصير فقط، حيث حصد حزب الحرية والعدالة 44.9% من مقاعد البرلمان (235 مقعداً) بعد حصوله على 37.5% من الأصوات. وأصبح حزب الحرية والعدالة، رسمياً، حزب الأغلبية في مصر وتنافسه فقط ثلاثة أحزاب سلفية جديدة حصدت معاً 25% من المقاعد (بمجموع 123 مقعداً) بعد حصولها على 27.8 % من الأصوات. (25) وجاء حزب الوفد الجديد، وهو أكبر حزب غير إسلاموي، في المركز الثالث بفارق كبير (38 مقعداً، 9.2%). ولكن سرعان ما اتضح أن التحالف التكتيكي بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمين لن يكون سلساً، أي بدون مناوشات وتعديلات متبادلة على بنوده. كان الإخوان يذكرون جيداً كيف غدر بهم الضباط الأحرار بعدما ساندوا انقلاب 1952 العسكري، ويخشون من تكرار الغدر؛ بينما كانت القوات المسلحة، متأثرة بسنوات طويلة من الخطاب الرسمي المناهض للإسلامويين، تتوخى الحذر والريبة من وصول الحركة الإسلاموية إلى السلطة المطلقة. (26) وتزايد التوتر في ربيع وصيف 2012 مع اقتراب الانتخابات الرئاسية وتسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة إلى رئيس مدني منتخب. وفي ربيع 2012، قدّمت الجماعة - حزب الحرية والعدالة مرشحها للرئاسة، بالرغم من كونها تعهّدت سابقاً بعدم المنافسة على الرئاسة. (27) ويعود السبب في نقض تعهدها ربما إلى ضعف الموقف القانوني للبرلمان الذي يهيمن عليه الإسلامويون، وعدم قدرتهم على تأسيس سلطة تنفيذية ووجود تهديد بصدور حكم من المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية البرلمان؛ وهو لا يعرض البرلمان لخطر الحل فقط، ولكن أيضاً حل الهيئة التأسيسية لوضع الدستور المنبثقة من البرلمان. وبالفعل، ثبتت صحة مخاوف الجماعة؛ فبعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية ووصول مرشح الإخوان، محمد مرسي، غير المتوقع إلى الجولة الثانية، قام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحل البرلمان على أساس حكم من المحكمة الدستورية العليا، ومنح نفسه سلطات تشريعية. (29) أكثر من ذلك، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في 17 يونيو، وهو اليوم الذي أغلقت فيه صناديق الاقتراع للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، إعلاناً دستورياً مكملاً لإعلان مارس 2011 جعل فيه الرئيس المصري الجديد «عملياً» خاضعاً إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
يتبع.
** **
hamad.aleisa@gmail.com - الدار البيضاء