القرية هي الوثيقة الحية للموروث الثقافي، سواء كان شعراً أو حكاية أو أسطورة، أو علّامة، واستحلاب الحكايات الشعبية من ذاكرة القرويين مهمة شاقة وضرورية، أما لماذا؟ فلأن المدينة والمدنية بمؤثراتهما قادرة على مسح الذاكرة القروية، وهنا يأتي ضرورة التوثيق والرصد بأي شكل سواء في جلباب رواية أو نسيج قصة كما فعلها الروائي الراحل عبدالعزيز مشري، أو في سياق قصيدة كما فعل الراحل سعد الثوعي أو ضمن سيناريو مسرحي كما يقدمها المسرحي محمد ربيع، أما ينابيع الحكايات فهم كبار السن من رجال ونساء وقد طوى الزمن الكثير منهم ويأتي الراحل عبدالرحيم بن سويد كواحد ممن برز في سرد الحكايات بأسلوب شيق، ويمكن القول: إن معظم نساء القرية كن بارعات في سرد الأساطير والحكايات الخيالية، مثل حكاية السعلية، وهول الليل، الجثام، عبد البئر، ومازالت مخالب السعلية باقية في جدران الذاكرة، ومازال الجثام بكلكله جاثما عل صدور الكثيرين لحد الاختناق، أما ساقا هول الليل فهما كجذعي شجرتين عملاقتين، والمرعب يختفي في غياهب البئر ينتظر أطفال القرية الذين يجنحون عن مسار دروب ومسارب القرية، والسّمرة كما يطلق عليها القرويون هي أشبه بالقنوات الفضائية المتعددة البرامج فمن خلالها التي لا تتجاوز الساعتين من بعد المغرب إلى بعيد العشاء بقليل تتساوق الحكايات والألغاز والطرائف، ويمسك بزمام السرد من مُنح بهذه الموهبة لتكون الآذان صاغية، ويمتد الليل الطويل بنجومه المتلألئة وقمره الوضاح وأصوات الصراصير ونقيق الضفادع وخرير مياه وادي قوب ليسكن الأهالي في نوم عميق استعداداً ليوم حافل بالنشاط الزراعي والرعوي، والعاشقون هم الذين ينضدون الشعر غزلا شفيفا نقيا يبوحون بأسراهم لضوء القمر ليتناقل الركبان قصائدهم المفعمة بالعشق والتشبب، وتظل الحكايات أحد أهم مصادر المعرفة لكونها تجمع بين النصيحة والتحذير والتوجيه وخلق المتعة والبهجة، إلا أن هناك مصادر أخرى وتأتي أسواق وادي قوب كأحد رغدان، وخميس الباحة، وثلاثاء الظفير كمصادر معرفية من خلالها يتجمع البائعون والمشترون من أطراف المنطقة، والسوق مكان لتناقل العلوم والأخبار كالأسعار والأمطار والزواجات والوفيات والمواليد إذ ليس هناك من وسائل إعلامية، سوى رواد السوق الذين يجيئون سيراً على الأقدام أو ركوبا على حمار أو امتطاء ظهر جمل، السوق يقوم بمهام اقتصادية وإعلامية وثقافية واجتماعية في آن واحد بقيت أطال الأسواق من دكاكين ومنازل حجرية إلى الآن تنتظر من يعيد صياغتها بما يتواءم مع الظروف الحياتية التي نعيشها حالياً، والرواة يقولون: إن الأسواق بدأت في مهمتها منذ ما يقارب خمسمائة عام واختاروا الأمكنة المناسبة مراعاة للمسافات الجغرافية وكثرة السكان، ويتم في باحة السوق بيع الفواكه والحبوب من المنتج الزراعي المحلي والبهارات والأقمشة المستوردة والتمور واللباب والزبيب وغيرها، وانعكس ذلك في وجود عدد من التجار ليكون مارقا كأحد التجار البارزين، ليكون مضرب المثل في الثراء والتجارة، بحسب الظرف الزماني والأحوال الاجتماعية ذلك الوقت، وللسوق عقوده وعَقّادته أي أنظمته ومنظموه ، وهي ملزمة للجميع، ومن تجاوز حدود السوق يُعاقب قبل مغادرة السوق بضرب جبينه بحد الجنبية عندها قد أخذ جزاءه واعتبر غيره، والهدف هو الحفاظ على السوق من أن يحدث خلل في أنظمته الصارمة جدا، ولو حدث إهمال في ذلك انقطع رواد السوق الذهاب إليه، وتكون خسارة فادحة لأهله، وللشعراء دورهم في إصلاح المشكلات متى حدثت، والشعر والشاعر مقدران في المجتمع القروي، فمعظم المشكلات كانت تنجم عند حدود قروية أو مكان للمرعى أو شعب للاحتطاب، أومنبع ماء، أوغابة شجرية، والشاعر لسان القبيلة في الأفراح والأتراح حيث يجد الاحترام والتقدير لقدرته في حل المشكلات بقصيدة شعرية واحدة..