شكّلت مدونة النقد الأدبي بما تحمله من أفكار أصبحت بتداولها مسلّماتٍ لا تكاد تقبل النقاش شكّلت حاجزاً يحول دون فهم النصوص الأدبية التراثية كما يقول الدكتور توفيق الزيدي، أو إعادة النظر فيها، وصار الناقد الحديث إذا أقبل على دراسة الشعر القديم مثلاً أقبل، وهذه الأفكار توجّه تلقيه للنصوص، ليكتشف في النهاية أنه لم يستطع الخروج عن إطارها، ولا الانفكاك من أسرها، وإنما ظل يعيد هذه الأفكار بأسلوب مختلف، وربما وجد الناقد في نفسه شيئاً من النزوع إلى ريادة آفاق جديدة في نقد الشعر القديم إلا أن سطوة النقد القديم ونظرة الإجلال إليه من المتلقي تحدّان من جرأة الناقد الحديث.
ولأن التراث الأدبي لم يفصح بعد إلا عن جزء يسير من مكنوناته، فإن الحاجة إلى الغوص فيه مُلحّة للكشف عن باقي كنوزه.
لقد كنت أقرأ شعر أبي تمام وأنا لا أنتظر منه إلا الصناعة اللفظية التي هي في جوهرها ضرب من التزيين الظاهري الذي لا قيمة له سوى أنه تحسين، وكلما مررتُ بأحد أبياته التي عابها عليه النقاد كالآمدي والعسكري وجدتُ نفسي لا ترى في هذا البيت إلا العيب الذي أُخِذ عليه، ثم وجدتها تصدف سريعاً عن البيت الذي يسبقه إلى ذهني كلامُ الناقد فتحيط بذهني هالة من عمىً عن النظر إلى ما يمكن أن ينطوي عليه البيت من جمال.
وحين بدأ بعض النقاد في العصر الحديث يعيدون قراءة شعر أبي تمام كانوا يدورون في المناطق التي لم تطأها أقدام النقاد القدماء إلا لماماً، وإذا مرّوا بآثار النقاد القدماء في أبيات أبي تمام التي أشكلت وجدناهم يكادون يسيرون على منوالهم ويجارونهم فيما عابوا على أبي تمام سوى ما ندر.
أما كتاب «شعر أبي تمام بين النقد القديم ورؤية النقد الجديد» فإنه قد وقف إزاء النقد القديم موقف الندّ، لا يجد غضاضة في تخطئة الآمدي وغيره لكنْ بمنطق النقد الأدبي، والأحكام العلمية، والتعليل الجمالي، فهو يغوص في عمق هذه الأبيات المشكِلة لا يقف عند ظاهر اللفظ كما وقف النقاد القدماء، بل ينظر في كلية النص، وفي دلالة اللفظ في سياقه الأدبي متسلحاً في وقوفه هذا بأدوات النقد الحديث وآلياته.
فمن أبيات أبي تمام التي عِيبَت:
رقيق حواشي الحِلم لو أن حِلمه
بكفيك ما ماريتَ في أنه بُرْدُ
فقد شّنع عليه الآمدي بأنه لا أحد من شعراء الجاهلية والإسلام وصَفَ الحِلم بالرقة، وإنما يوصف بالعظم والرجحان والثقل والرزانة، وبأنه أخطأ في وصف البُرد بالرقة وهو لا يوصف بذلك، وإنما يوصف بالمتانة.
حتى طه حسين ونجيب البهبيتي المعاصرَيْن حينما وصلا إلى هذه الـمسَلَّمة النقدية اعتذرا لأبي تمام بأن هذا البيت جاء استجابة للحضارة العباسية المترفة.
أما سعيد السريحي فقال: «ولم يفطن القوم إلى أن للبُرد تاريخاً عريقاً في الإسلام يمد جذوره إلى حادثة مثول كعب بن زهير بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنشاده قصيدته بانت سعاد، وإعلانه إسلامه، ثم عفو الرسول عنه، وإلقائه بردهُ عليه علامةً على العفو وإشعاراً بالصفح، وفي ذلك ما فيه من دلالة على الحلم العظيم عن خصم لدود بلغ في الخصام حداً أن أهدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دمه، ثم تداولت الأيدي ذلك البرد، ...، فالبرد وثيق الصلة بالحِلم، والحِلم وثيق الصلة بالسيادة، ...، والرقة في بيت أبي تمام إنما عابها القوم لأنهم وضعوها مقابِلة للرزانة مناقضة لها؛ ولذلك قرنوها بالخفة والطيش، فأصبحت سمة للذم لا للمدح، غير أن المرزوقي فطن إلى أن الرقة في هذا البيت نقيض للغلظ والفظاظة، ...، والجدير بالملاحظة أن النقاد والشرّاح قد أخذوا على الحلم في بيت أبي تمام على أنه مرادف للعقل والأناة، ولذلك استقبحوا أن يوصف بالرقة، ولم يدركوا أن الحلم هنا حالة نفسية تدل على التسامح والعفو والصفح».
إن هذه الدراسة ذات قيمة نقدية عالية تثبت أن النقد الحديث قادر على استكناه النصوص التراثية، وسبر أغوارها، واكتشاف جماليتها، كما أنها تثبت قدرة الناقد الحديث على محاورة النقد القديم، والإضافة إليه، بل والرد عليه، ومناقشة المسلَّمات النقدية، وإزالتها حَجْبِها الرؤية الحديثة عن الشعر القديم، كما أن هذه الدراسة تختلف عن كثير من الدراسات التي كان التحليل فيها بمعزل عن إبراز الجماليات في النص.
لقد كشفت هذه الدراسة عن جوانب جمالية في شعر أبي تمام، وأثبتت تمكُّن السريحي النقدي، ومقدرته على الغوص في أعماق النص، ولئن تجلى عبدالفتاح كيليطو بكتابه الغائب في تحليل مقامات الحريري، فإن سعيداً السريحي في دراسته هذه لا يقل عنه تجليّاً في تحليل الشعر؛ فقد أظهر في دراسته هذه مقدرة عالية في ربط الظواهر بأسبابها، واستطاع بالحجج العلمية نفي بعض المآخذ على شعر أبي تمام، وترميم قصائده، وكشف جماليات شعره، وربما إضافة بعض الجمال إليها.
- د. سعود بن سليمان اليوسف