«الجزيرة» - المنبر:
تزايد المشكلات بين الأسر والعوائل نتيجة الاختلافات فيما يسمى بـ « الأوقاف الأهلية « أو «الأسبال» ممّا تسبّب في قطيعة الرحم بين الأقارب، ووصول بعض القضايا والمنازعات إلى المحاكم جرّاء التصرّفات الخاطئة من نظّار الوقف حيث استقبلت المحاكم نحو 360 دعوى حقوقية لأوقاف وقع عليها نزاعات خلال العام الماضي، وذلك في 11 منطقة، في حين أن الغالبية العظمى لم يلجأوا للقضاء لأنهم لا يريدون الدخول في إشكالات قضائية مع قرابتهم وأهلهم وحفاظاً على أواصر القربى وصلة الرحم. وأنهم يتوقّفون عن شكوى العم أو الخال أو أبنائهم.
«الجزيرة» طرحت القضيّة على عدد من القضاة وذوي الاختصاص.. فماذا قالوا ؟!
المشكلة موجودة
بدايةً يؤكّد فضيلة رئيس محكمة الاستئناف بمنطقة المدينة المنورة الشيخ الدكتور صالح بن عبدالرحمن المحيميد أن مشكلات الأوقاف الموجودة «الوقف العائلي» الآن إلى عدم وجود شروط ظاهرة في صرفه، وعدم وجود المحاسبة والمراقبة؛ فمن تولى وقفاً يتصرف فيه بدون حسيب أو رقيب، ولا يقبل من أحد أن يسأله عما عمل به حتى لو عطله أو صرفه على هواه، وهذا هو السبب الحقيقي لتعطل بعض الأوقاف. واعتبر المحيميد أن هذا الوضع أدى إلى إحجام الناس عن الوقف؛ لهذا حُرم من يخشى على ماله من الاستئثار به من أجر الوقف، وحُرِم المجتمع الخاص والعام من الأوقاف، مع أن المشكلة خاصة، لكن لكثرتها ظن البعض أن كل الأوقاف مصيرها الإشكال والتعطل، وهذا غير صحيح وغير مستقيم إذا أحسن الواقف كيف يضع شروط الوقف ومن يتولاه، ووضع الأجرة المناسبة للعاملين عليه، وكيفية إدارته، واستعان بذلك بأهل المعرفة، وحسن الإدارة للأصول.. والواقع خير شاهد؛ فكثير من الأوقاف التي يقوم عليها أهل العلم بحسن الإدارة باقية، وفيها نفع عظيم لمن وُقِفت عليه، وحققت الأجر للواقف، والمصلحة للموقوف عليهم.
ونبّه الشيخ المحيميد إلى أنّ من أهم ما ينبغي أخذه بالاعتبار لمن أراد أن يوقف عقاراً أن يكون قصده ونيته هو ابتغاء مرضاة الله، والرغبة في الأجر والثواب؛ لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى؛ فمن أراد بوقفه وجه الله والدار الآخرة حصل له مراده، ومن قصد غير ذلك مثل أن يريد حرمان وارثه، أو خوفه من ألا يحسن الأولاد إدارته، أو خوفه من انتقاله إلى أولاد البنات، أو إلى أزواجهن، فكل هذه المقاصد تُخرج الوقف عن أن يكون صدقة جارية؛ فالنية مهمة جدًّا، والأفضل التصريح بذلك في وثيقة الوقف؛ حتى تكون هدفاً ظاهراً يصار إليه عندما تضيق مصارف الوقف، أو تزدحم.
وانتهى رئيس محكمة الاستئناف بالمدينة المنورة إلى القول: إن الوقف إمَّا أن يكون عامًّا، أي في سبيل البر والخير العام، أو يكون خاصًّا بأن يكون وقفاً على الأقارب والأهل والأولاد ثم أولادهم ما تناسلوا، ثم إذا انقرضوا يكون للأقرب فالأقرب للواقف، فهذا هو المراد بالوقف الأهلي، وفيه أجر، والشرع حث على أن يكون الوقف في الأقربين، وخاصة المحتاج منهم.
نظارة الوقف
ويقول الدكتور خالد بن هدوب المهيدب الأستاذ المشارك بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز إنّ نظارة الوقف تعد من أهم الضمانات لاستمرار بقاء الوقف ويتعين على الواقف أن ينص على اسم الناظر الصالح للنظارة صراحة في وثيقة وقفه أو وصيته ويضبط تسلسل النظارة ولا يتهاون أو يغفل عن هذا الجانب المؤثر، وأن يتوخى لنظارة وقفه من يرتضي دينه وأمانته وحسن تدبيره من ذريته صغيراً كان أم كبيراً ذكراً أم انثى فالشريعة الإسلامية أجازت للمرأة أن تتولى نظارة الوقف؛ لما ثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - « أوصى بنظارة وقفه إلى ابنته حفصة « .
وقد وقفت على العديد من الأوقاف التي عانت من نزاعات وخصومات بالمحاكم نتيجة إشكالية نص الواقف على «أن نظارة الوقف للأكبر من الأبناء» ونتيجة لذلك يتقلد الأبن النظارة ويورثها لأولاده وأولاده لأولادهم وهكذا.... ويترتب على هذا تفاقم الخلافات والخصومات والحزازات والنزاعات التي تفوت على الواقف المصلحة التي لأجلها خصص وقفه لأجلها، وبالتالي فلا مجال للمجاملة أو التحسس من النواحي الاجتماعية أو النفسية للأبناء في قضية تعيين الناظر للوقف مطلقاً لأن الواقف إن جامل في هذا الباب فسيخسر كثيراً ويفوت على نفسه مصالح تجر له النفع والثواب وعظيم الأجر الذي هو أحوج ما يكون إليه بعد مفارقته للحياة الدنيا إن كانت اليد التي عينها لإدارة ونظارة الوقف والإشراف عليه ليست أهلاً لتحمل هذه الأمانة والمسؤولية الجسيمة فالله عز وجل قال في محكم التنزيل «إن خير من استأجرت القوي الأمين».
العلاقة الأسرية
ويشير الدكتور محمد بن عبدالله المشوّح المحامي والمستشار الشرعي إلى أنّ الخلافات العائلية بسبب الأوقاف والأسبال قد كثرت وهذا مع الأسف ينعكس على العلاقات الأسرية حيث يترتّب على ذلك قطيعة نتيجة لرغبة بعض الأطراف إشراكهم في النظارة، ومن المعلوم أنّ هذا يعود إلى القاضي والوصيّة والتي يتعيّن تنفيذها، ومن المهم أن يكون للقضاة دور في رأب الصدع وجمع الكلمة وإفهام الجميع بذلك، وأنها ليست مغنم بل أمانة ومسؤولية كبرى يتعيّن الحفاظ عليها وتنفيذها، وعلى الخطباء دوماً أن يكون لهم دور في بث الوعي وبيان الأمور الشرعية المترتبة على ذلك، والتحذير من أن تكون هذه الأوقاف والوصايا طريقاً للشقاق والخلاف مع أن قصد الموصي هو الإحسان له ولورثته، وإن على الجميع دور في حفظ الأوقاف والعناية لما ورد فيها، وتنفيذها حسب رغبة الواقف، والموصي، والنظر الشرعي.
الحد من الاختلاف
ويؤكّد الشيخ سامي بن إبراهيم العُمري القاضي السابق بوزارة العدل إلى أنّ الناس قد عانوا من ويلاته، ولا يزالون، ولئن كان كذلك فهو يندرج تحت مظلة الخلاف الواجب فيه الرجوع إلى الله ورسوله «فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً».
وما دفع الناس إلى الأوقاف وتسبيل المنافع إلا لديانتهم وحبهم للخير واستمرار الأجور بعد الوفاة، وفراق الدنيا لما علموه من فضل ذلك. ويوضّح الشيخ العُمري أهم الأسباب للحد من هذا الاختلاف وقطع الطرق إليه، وذلك وفق النقاط التالية:
1 - الالتزام بما ورد في الشرع المطهر والاكتفاء بالوقف المنجز في الحياة في تصوري أن خير طريق يسلكه المسلم أن يوقف الوقف والسبايل وهو حي ويترك الوصية لما بعد الموت وهذا ما يسميه الفقهاء بـ « الوقف المنجز « .
2 - جعل النظارة في أهل الثقة والأمانة سواء من الورثة أو من غيرهم، ولو جعلها في أوقاف الدولة لكان ذلك مما يقضي على الخلاف ولو بعد انقضاء تسلسل النظارة في الورثة.
3 - يأتي دور العلماء والمصلحين في توعية المسلمين وتوجيههم وتبصيرهم بأمور باب الوقف وتحبيس الأصول وتسبيل المنافع.
4 - أرى أن من أهم الأسباب على الحد من هذا الخلاف قيام ولي الأمر بالتصدي لذلك من خلال وضع هيئة تسوس الناس أو على الأقل تنظيم هذا الباب من الأوقاف.
ولو كان الوقف لأقل من الثلث كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « الثلث، والثلث كثير وأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس منعوهم أو عطوهم « . وأن لا يكون منجزاً في حال الحياة واختيار الأصلح من النّظّار من المسلمين والمؤسسات الشرعية لكان خيرة لهم وأقوم.