هل لا يزال أحد يشك في أن حربًا باردة جديدة ممكنة الحدوث؟ هناك مواجهة واضحة بين روسيا والغرب، وهي مواجهة عصية على الحل سواء بالوسائل العسكرية - كلاهما يمتلك أسلحة نووية - أو من خلال القنوات الدبلوماسية.
الأكثر غرابة هو أن تلك المواجهة اتخذت شكل حروب بالوكالة التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة. وبالرغم من أن التليفزيون الرسمي الروسي الذي تسيطر عليه الدولة ظل يذيع مشاهد لا حصر لها عن الطائرات الروسية وهي تقصف أهدافها بالتزامن مع تقارير تحتفي بالنصر يذيعها جيش النظام السوري أيضًا، فإن الصحافة الغربية قدمت صورة مغايرة تمامًا: صور لدبابات محترقة كانت روسيا قد وفرتها لجيش بشار الأسد المأزوم والمنهك.
بل الأكثر من ذلك أن القادة الميدانيين لما يسمى بقوات «المعارضة المعتدلة» - التي يهاجمها الآن الجنود الإيرانيون وقوات ما يسمى (حزب الله) وجيش الأسد على حد سواء - لا يترددون في الإعلان عن تدميرهم لدبابات تلك القوات باستخدام أحدث الأنظمة المضادة للدبابات، والتي أتت من الولايات المتحدة.
بالعودة إلى ثمانينيات القرن الماضي، سنجد ان موسكو وواشنطن سلحتا الجماعات المتحاربة التي قاتلت في عدد لا يُحصى من الحروب الأهلية في كل من أنجولا وموزمبيق ونيكاراجوا ومناطق أخرى من العالم، وحرص الطرفان بكل عناية على ألا يدخلا في مواجهة مباشرة خوفًا من إشعال حرب نووية.
المقارنة بين الحرب الباردة والصراع الحالي بين الولايات المتحدة وروسيا مقارنة مذهلة حتى في أدق التفاصيل مما يخلق حالة فريدة من شعورنا بأننا عشنا تلك الأحداث من قبل. على سبيل المثال، أوردت صحيفة «الواشنطن تايمز» أن كبار مسئولي الجيش الكوبي يفكرون في إرسال خبراء إلى سوريا لأن قواتهم تتمتع بمهارات خاصة في قيادة الدبابات الروسية؛ مما يجعلنا نستدعي ذكريات القوات الكوبية التي كانت تشكل السواد الأعظم من القوات الأساسية المقاتلة على الأرض في العمليات في كل من أنجولا وموزمبيق ونيكاراجوا.
وحتى دبلوماسية اليوم تستنسخ دبلوماسية الثمانينيات، عندما كان كلا الطرفين يقوم بتحركات دبلوماسية ليس بهدف التوصل إلى اتفاق بشأن بعض القضايا الشائكة، ولكن فقط من أجل مزيد من إرباك «العدو». فاللقاءات بين الرئيسين الأمريكي والروسي باراك أوباما وفلاديمير بوتن عشية جلسة اجتماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة - والتي أرغمت موسكو واشنطن عليها فعليًا - أقنعت الإدارة الأمريكية أن روسيا تستخدم مثل تلك اللقاءات فقط من أجل الدعاية وأنها لا تحمل أية قيمة عملية.
ونتيجة لذلك، تجاهل البيت الأبيض عرض بوتن لإرسال وفد عالي المستوى بقيادة رئيس الوزراء ديمتري ميديديف للولايات المتحدة لمناقشة الوضع في سوريا. وكرد على تلك الإهانة، صرح الرئيس الروسي علانية أن الشركاء الأمريكيين «تمتلئ رؤوسهم بالعواطف الواهية».
بوتن ومساعدوه لم يكلوا ولم يملوا من تكرار أن موسكو طلبت من واشنطن الإحداثيات الدقيقة لأهدافها المتعلقة بتنظيم داعش في سوريا، بالإضافة إلى مواقع قوات «المعارضة المعتدلة» التي لا يجب على روسيا أن تهاجمها.
وأدان الكرملين بشدة البيت الأبيض لرفضه تقديم مثل تلك البيانات، متظاهرين بأنهم لا يفهمون أن مثل ذلك التبادل للبيانات لا يتم إلا بين طرفين يثقان في بعضهما البعض تمام الثقة؛ فكيف يمكن لواشنطن أن تقدم لموسكو مواقع «المعارضة المعتدلة» بينما يمكن لموسكو أن تمرر تلك المعلومات إلى جيش الأسد؟ كيف يمكن للولايات المتحدة أن تقدم لموسكو معلومات عن أهداف تتعلق بتنظيم داعش دون المخاطرة بكشف الوسائل السرية والتقنية التي تستخدمها واشنطن لجمع تلك المعلومات؟
هذا كله يذكرنا بكيفية ترويج قادة الاتحاد السوفيتي سابقا لبرامج سلام يعلمون مسبقًا أنها غير مقبولة للغرب، فقط لكي يستطيعوا أن يلعنوا «تجار الحروب» في واشنطن بسبب رفضهم لمثل تلك البرامج. الولايات المتحدة ترد الآن بالطريقة ذاتها التي كانت ترد بها اثناء الحرب الباردة ؛ فقد استخدم المتحدث باسم البيت الأبيض جوش إيرنست لغة مهينة عن عمد في تعليقه على رفض واشنطن لاستقبال الوفد الروسي بقيادة ميديديف، حيث صرح قائلاً: «ليس مستغربا على الإطلاق أن يلجأ الرئيس بوتن بيأس إلى محاولة إرسال ثاني أكبر مسئول في الحكومة الروسية إلى الولايات المتحدة لمحاولة أن يقنعنا بالانضمام إليهم. ولكن الحقيقة هي أن ذلك الطلب قوبل بتجاهل تام».
بل إن وزير الدفاع أشتون كارتر مضى إلى أكثر من ذلك، قائلاً: «من شبه جزيرة كامشاتكا الروسية وحتى جنوب آسيا، ومن القوقاز وحتى البلطيق، استمرت روسيا في احاطة نفسها بستار من العزلة». وكان وزير الدفاع الأمريكي يعيد صياغة العبارة التي قالها رئيس الوزراء البريطاني السابق وينستون تشرشل في خطبته الشهيرة عن «الستار الحديدي» التي قال فيها: «من مدينة ستيتن في البلطيق إلى مدينة تريستي الإيطالية على الأدرياتيك، أسدل ستار حديدي عبر القارة الأوروبية». وكانت تلك الخطبة في عام 1946 هي التي دشنت بدء الحرب الباردة الأولى، ويبدو أننا نشهد اليوم ولادة الحرب الباردة الثانية. وكلمات أشتون كارتر لا تدع مجالا للشك بهذا الصدد أيضًا، حيث قال: «سوف نتخذ كل الخطوات الضرورية لردع النفوذ الروسي المهدد للاستقرار».
- أليكساندر جولتس