من البرامج التلفزيونية التي أتابعها أحياناً برنامج يتم الاستعانة به من خلال طباخ يمتلك سلسلة من المطاعم الناجحة في أهم العواصم والمدن العالمية وذلك لإنقاذ مطاعم على وشك الإغلاق وانتشالها من الإفلاس الوشيك. من خلال متابعتي للبرنامج لاحظت تكرار نفس النصيحة في جميع الحلقات تقريبا وهي ضرورة تحديد قائمة الطعام واختصارها قدر الإمكان، فالمطعم الذي يقدم عدداً محدوداً من الأطباق المميزة سيحظى بفرص نجاح أكبر من المطعم الذي يقدم قائمة طويلة من الأطباق غير الجذابة.
وعندما أتأمل هذه النصيحة أجد أنها مفيدة في جميع جوانب الحياة، فالتميز في جانب واحد والتركيز عليه سيؤدي بالتأكيد إلى النجاح في هذا المجال بينما سيؤدي تشتيت الجهود والموارد إلى الفشل الحتمي على المدى البعيد. ومؤسسات التعليم العالي حول العالم تثبت صحة وفائدة هذه النصيحة فنجد أن أغلب الجامعات التي تميزت وذاع صيتها هي جامعات اختارت التركيز على تخصصات معينة، والأمثلة على ذلك كثيرة ولعل أهمها معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) وكلية كنجز كوليج اللندنية (King›s College London ) التي ذاع صيتها في التخصصات الطبية، كما نلاحظ ارتباط التخصص والمجال الذي تتميز به المؤسسة التعليمية أو البحثية بموقعها الجغرافي ومحيطها الاجتماعي والثقافي، فعلى سبيل المثال معظم جامعات وادي السيليكون (Silicon Valley) هي جامعات برزت في مجال التقنية وعلومها، بينما اشتهرت جامعات تقع في بيئات زراعية كجامعة (University of California, Davis) وجامعة ريدنج (Reading) الواقعة في قلب الريف الإنجليزي بالتخصصات المتعلقة بالعلوم الزراعية كما اشتهرت جامعة شيكاجو (Chicago) الواقعة في قلب مجتمع صناعي بتخصصات الإدارة والاقتصاد.
وعلى الصعيد المحلي نجد أن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وجامعة الأمير نايف للعلوم الأمنية وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (KAUST) خير مثال على نجاح هذا التوجه، ودائما ما تراودني أسئلة حول هذا الموضوع، فكيف سيكون مستقبل التعليم العالي في المملكة فيما لو اتبعت بقية جامعاتنا نفس النهج واهتمت ببناء هوية مميزة وتوجها محددا لتخصصاتها، وماذا لو اهتمت على سبيل المثال جامعة الملك خالد بمجال السياحة والفندقة وريادة الأعمال، وجامعة حائل بمجال الآثار والجيولوجيا وعلومها، وجامعات كالملك فيصل والأمير سطام بالعلوم الزراعية، وأن تتوجه جامعة أم القرى نحو تخصصات إدارة الحشود والأزمات والطب الوقائي، وكيف سيكون تأثير مؤسسات التعليم العالي على المجتمع والاقتصاد فيما لو اهتمت كل جامعة بتوجيه البحوث العلمية والتخصصات المقدمة لطلابها والمشاريع المشرفة عليها لدعم بيئتها المحلية الجغرافية والثقافية والاجتماعية، كيف سيكون وضع مؤسساتنا التعليمية حينها وكيف سيكون مستوى خريجي جامعاتنا وأثرهم في دعم عجلة التنمية المحلية؟