يحكى أنه كان هناك رجل رزقه الله ابنين أحدهما يدعى «محمد» والآخر «عيد»، ذهب محمد في رحلة حج وتعرض لحمى أودت بحياته، فمن بقي للرجل من أبناء؟
كنا نتسلى في طفولتنا برواية هذه القصة وكان يسعدنا مراقبة رد فعل المستمع حين ندخله في دوامة تكرار القصة بعد أن يجيب عن السؤال المطروح في آخرها. واليوم لم نعد نروي القصة بل أصبحنا نعيشها بشكل يومي مع اختلاف الأشخاص والزمان والمكان، وللأسف لا يمكن للراوي أن يبتسم في النهاية بعد أن يكتشف المستمع ما أوقعه فيه. واليوم يمكن رواية القصة بنسختها الحديثة كالتالي:
في هذا العصر وهذه الأيام أكرمنا الله بأن ننتمي لبلاد مباركة حباها الله بنعم لا تعد ولا تحصى، وتمر هذه البلاد بموجة من التنمية الشاملة لجميع قطاعاتها وفي جميع المجالات ويسعى الجميع قيادة وشعبا للعمل على دفع عجلة التنمية وتقديم الأفضل.
لكن سوق العمل وجد نفسه في مأزق فهو يعاني من نقص شديد في الكوادر المؤهلة من أبناء الوطن في العديد من المجالات الحيوية والتخصصات الجديدة المطلوبة لإكمال المسيرة. كل ذلك دعا سوق العمل إلى التوجه للجامعات الحكومية طالباً منها التوقف عن تخريج الآلاف من تخصصات أكل الدهر عليها وشرب والالتفات إلى المجالات الجديدة لسوق العمل والتنمية وتحديث تخصصاتها وبرامجها. فما كان من الجامعات إلا أن هزت كتفيها بيأس لتخبره بأنها فكرت في ذلك بشكل جاد وتقدم بعضها لوزارة التعليم بخطط لافتتاح تخصصات جديدة وتحديث التخصصات الموجودة فعليا لكن بلا نتيجة. توجه سوق العمل والجامعات لوزارة التعليم للاستفسار فأشادت الوزارة بالزيارة وقدرت أهمية تحديث التخصصات ولكنها أخبرتهم بأنها لا يمكن أن توافق على أي تخصص حتى يصنف من وزارة الخدمة المدنية وبينت ضرورة التكامل في العمل بين القطاعات والالتزام باللوائح والأنظمة. ذهب الجميع لوزارة الخدمة المدنية يسبقهم الأمل فقامت الوزارة متثاقلة لتخرج دليل تصنيف الوظائف الحكومية وتنفض عنه غبار السنوات منذ آخر تحديث له، وكانت واثقة من عدم ورود أي من التخصصات المطلوبة في الدليل ولكنها فتحته كإجراء روتيني وألقت نظرة سريعة وجاء الرد المتوقع: لا يمكن تصنيف هذه التخصصات لأني لا أملك وظائف حكومية مناظرة لها!! ولكن اسألوا سوق العمل قد يحتاج إليها. فالتفت سوق العمل للجامعات بعيون حائرة ودخل الجميع في نفس الدائرة مرة أخرى.
شخصياً لا أعلم متى ستنتهي هذه القصة ولا ما إذا كان سيبادر أحد أطرافها بكسر الدائرة والخروج منها. ولكن أعتقد انه يمكن وقف هذه القصة المملة بخطوتين أساسيتين:
أولاً: إعطاء الجامعات الحكومية الاستقلالية التامة وتحميلها مسؤولية اختيار برامجها وإخراجها من عباءة وزارة التعليم. وثانياً وهو الأهم العمل على كسر الصورة النمطية عند الجميع بكون مهمة الجامعات الأساسية هي تخريج موظفين للقطاعات الحكومية وإلا سيظل سوق العمل يكرر نفس السؤال: إذا ما مات محمد من سيبقى للرجل وسترد عليه الجامعات «عيد».