القدرة على مواصلة الحياة أهم من الحياة نفسها..
هذا ما ظلت تحارب من أجله تلك الأنثى المتمردة بما تبقى لها من هواء في رئتيها لتنتصر على كل هزائمها وخيباتها.
كانت خليطًا من الغرائب والحكايات المبتورة الأطراف. تارة تفوح حزنًا، وتارة كراهية طاغية لا تحتمل، وفي مرات كثيرة تكون نهرًا من حب لا نهاية له.
كل هذا وأكثر مما نستطيع تخيله اجتمع داخل امرأة فرنسية قصيرة القامة نحيلة الجسد.. طاردتها الكوابيس والذكريات القاتمة والأقاويل حتى ساعتها الأخيرة.
لقد كانت تشبه ما تكتبه تمامًا..
حياتها مكتوبة بين دفتي كتاب.. والمؤلف هو نفسه البطل مع القليل من التخفي.. والدروب التي عبرتها ورق وحبر.. حتى النهاية كانت مجرد نقطة ليس إلا.
هكذا عاشت الروائية والمسرحية «مارغريت دوراس» حياتها.. عاشتها من أجل ترتيب الانهيارات التي حدثت لها وهي طفلة. عاشت لتكتب عن ذلك الوجع الذي كان يغرس مخالبه في ظهرها.. عن الظلم.. والأماكن التي لا تعرف الدفء حتى في فصل الصيف.
دوراس التي ولدت في المستعمرة الفرنسية «سايغون» الفيتنامية.. صنعت منها الأحداث كاتبة تستطيع ببراعة أن تحوّل الواقع لمسارات من الدهشة. فموت والدها وهي في سن صغيرة جعل منها مجرد كومة من حزن تكبر كل يوم دون أن ينتبه أحد إلى ملامحها.
وحتى حياتها فيما بعد لم تكن حياة مثالية لطفلة نشأت بين أم قاسية وأخ يضربها باستمرار، وأزمة نفسية كادت أن تودي بها، وعلاقة حب ربطتها بشاب صيني تعرفت إليه قريبًا من نهر «الميكونغ» كنوع من مخاتلة الواقع البشع والهروب السهل. حب ظل ينقر بأصابعه فوق صفيح العمر.. كلما حاولت تناسيه عاد ليعصف بها.
ولكن، ما لم يكن متوقعًا أن تتحول هذه الأعاصير المدمرة في حياتها إلى ينابيع تتدفق إبداعًا. لقد أثّرت على أسلوبها الكتابي الأنيق، وجعلت منها واحدة من أهم الأدباء الفرنسيين في النصف الثاني من القرن العشرين.
انتقلت إلى باريس وهي في سن السابعة عشرة.. لتدرس السياسة وتلتحق بأحد الأحزاب السياسية التي كان يترأسها «فرانسوا ميتران» لتنشأ بينهما صداقة طويلة تعرف من خلالها على أدب دوراس وأعجب به. رأى فيها «ميتران» مثالًا صادقًا للمرأة المناضلة.. آمن بها وبتمردها.. وأعجب بواقعيتها وكيف أنها لم تخجل من ماضيها واستطاعت تركه خلفها. بينما هي في المقابل أعجبت بسياسته وثقافته العالية.
في كتابات «دوراس» يظهر الجانب الواقعي من حياتها. فهي تكتب نفسها بوضوح كبير وكأنها تنتقم من ذاكرتها التي ظلت تطاردها بلا رحمة. لقد صنعت من لغتها الساحرة جسرًا لنقل أحزانها نحو الضفة الأخرى. وربما بهذا أرادت التخفف من وجعها لتستطيع الانطلاق إلى الحرية التي طالما كانت تتطلع إليها. لم يكن مهمًا لديها أن يخلط قراؤها بينها وبين شخصياتها التي تقدمها في أعمالها.. فهي ترى أنها جزء من هذه الحياة، وأن تجربتها تستحق الكتابة.
تقول في حوار أجري معها عن هذا التداخل بين حياتها وما تكتبه (هناك الكتابة، ثم الحياة بفواجعها، ومظالمها. ولا يمكن أن نجمع بين الاثنين إلا عندما نجعل من الحياة، ومن كوارثها مادة للكتابة).
في أولى خطواتها نحو الشهرة كتبت «دوراس» روايتها «السيد في مواجهة الباسفيك» ورواية «الحياة الهادئة» ومن ثم «بحار جبل طارق» كمحاولات لتدوين اسمها تحت الأضواء. ولكن حضورها المسرحي كان طاغيًا.. وربما يعود الفضل لكون المسرح أكثر كرمًا واتساعًا لتدفقها.. وكتاباتها الواقعية الجريئة.. وهذا ما زاد في شعبيتها.
لقد كتبت العديد من المسرحيات المستوحاة من فترات الاستعمار التي عاشتها في فيتنام.. كتبتها أو بالأصح كتبت نفسها هي في تلك الأعمال.
قدمت مسرحية «الميدان» و»أيام بأكملها بين الأشجار» وهذان العملان جعلا من «دوراس» تمتلك شعبية واسعة في عالم الكتابة.. بل إن الكثير من النقاد اعتبرها مجددة حقيقية في الكتابة الروائية والمسرحية.
ومن ثم توالت أعمالها.. كانت تكتب بإيقاع حركي متسارع. طغت عليها الحالة المأساوية التي عاشتها وكونت محورًا أساسيًا في أعمالها الروائية والمسرحية والسينمائية أيضاً. لتصل إلى قمة نضجها الإبداعي في رواية «العاشق» عام 1984 والتي حصلت بسببها على جائزة غونكو.
لقد كانت «دوراس» امرأة مليئة بالكثير من التساؤلات.. تحب الحياة بكل تفاصيلها حتى المؤلم منها. ظلت تركض حافية فوق أيامها حتى آخر العمر. لم تستسلم.. ولم يغلبها تقدم السن.. بل أبقت على نوافذ قلبها مشرعة نحو الحياة.
لاحقتها القصص والأقاويل طوال مشوارها.. ولكنها كانت تدير ظهرها باستمرار.. لأنها تعلم أن الحياة قصيرة والرماح التي أثخنت جسدها في الماضي لم تدع مكانًا للألم.
علّمها المسرح أن تخرج ما في جوفها وتنحني للجمهور المنتشي وبعد أن يسدل الستار تمسح دموعها وتمضي.
يُقال إنه قبل أشهر من وفاتها شوهدت في شوارع مدينة بريست الفرنسية في وقت متأخر من الليل هي وبعض أعضاء مسرحيتها «مطر الصيف».
لقد كانت تركض برغم مرضها.. وكأنها تحاول اللحاق باللحظات الجميلة قبل أن يتوقف قلبها وهي التي عاشت حياة بأكملها جامحة بين أشجار الحياة المتساقطة.
- محمد أحمد عسيري ** ** @mohammedasiri10