ترجمة وتعليق: د. حمد العيسى:
تقديم المترجم: هنا ترجمة لتحليل اجتماعي-سياسي نوعي بقلم البروفيسورة دانييلا بيوبي. والبروفيسورة دانييلا بيوبي هي زميل أول مشارك في معهد الشؤون الدولية في روما، وزميل باحث مؤقت في جامعة روما «لا سابينزا». ونشرت الورقة في ديسمبر 2013.
الإخوان المسلمون يفشلون في حكم المارد المصري ويحترقون سياسيا!!
ملخص: قرّرتْ جماعةُ الإخوان المسلمين، بعد سقوط مبارك، أن تعمل كقوة تحقق الاستقرار وتتخلى عن الشارع وتضفي الشرعية الديمقراطية على العملية السياسية التي صمّمها الجيش، ونتج عن هذه الإستراتيجية أولا احتراق سياسي للجماعة، وثانيا قمع قاس بعد أن استنفدت لعب دورها في حفظ الاستقرار، وتجسدت الأخطاء الرئيسة التي ارتكبها الإخوان في: أولا، رفض وتجاهل عدة فرص لتزعم الثورة عبر قيادة القوات الشعبية؛ وثانيا، استخدام إستراتيجية تدريجية ضعيفة ومحافظة والسعي إلى تسويات مع أجزاء من فلول النظام السابق، بالرغم من أن الاضطرابات والتوقعات في البلاد كانت تتطلب إستراتيجية أكثر جرأة من ذلك بكثير. انتهى الملخص.
تهدف هذه المقالة إلى تحليل وتقييم سياسات الجماعة في مرحلة ما بعد مبارك؛ بغية تفسير سقوطها السياسي السريع من القمة إلى القاع، وتعرضها لأعنف موجة قمع في تاريخها. وللوصول إلى هذه الأهداف، سوف يبدأ التحليل مع فترة ما قبل «ثورة 25 يناير»؛ وذلك لأن الأحداث الحالية لا يمكن أن تفهم فهما صحيحا دون تجاوز السياسة الرسمية إلى التطور البنيوي في نظام السلطة المصري قبل انتفاضة 2011 وبعدها. وفي الجزءين الثاني والثالث من هذه المقالة، سنفحص التحول السياسي الذي لم يكتمل «بعد الثورة». وينقسم هذا التحول السياسي غير المكتمل إلى مرحلتين: (أ) المرحلة التي قادها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، من فبراير 2011 حتى الانتخابات الرئاسية في صيف 2012؛ و(ب) المرحلة التي قادتها جماعة الإخوان المسلمين، وانتهت مع الانقلاب العسكري في يوليو 2013 وبدء حملة القمع العنيفة التي مورست ضد الإخوان. وستشير المقالة، بإيجاز، إلى السياسات والديناميات الدولية. ليس لأن تلك السياسات والديناميات غير ضرورية لفهم الوضعية الراهنة في مصر؛ بل لأن هذا البلد العربي مارد يتأثر تأثرا كبيرا بالاقتصاد والأمن، وأيضا بالديناميات الداخلية. وإن الفحص الكامل لهذه الجوانب قد يتطلب مقالة أطول من هذا الحيز بكثير.
وأخيرا ينبغي اعتبار العديد من ملاحظات هذه المقالة وفرضياتها مؤقتة، ويجب تأكيدها عبر المزيد من البحوث. وفي الواقع، فإن الوضع السياسي المضطرب للغاية والاستقطاب الشديد يقفان عائقا بشكل جدي في وجه أيّ مسعى إلى القيام بتحليل شامل.
خلفية الثورة:
نظام يزداد افتراسا مع معارضة سيئة التنظيم
خلال مدة الـ18 يوما الشهيرة التي أدت إلى تنحي حسني مبارك في يناير-فبراير 2011 بعد 30 عاما من الحكم الاستبدادي، كانت هناك «ظاهرتان متوازيتان» تعملان:
(أ) احتجاجات شعبية بزغت، في الغالب، بصورة عفوية وغير منظمة كصدى للثورة التونسية؛
(ب) انقلاب عسكري.
وأثّر كلاهما على طريقة تشكيل التحول السياسي الناتج. وكلاهما يمكن تفسيره عبر تأمل تحولات النظام المصري، وعبر ضعف قوى المعارضة المنظمة للثورة.
كان الجيش، منذ ثورة عام 1952، هو العمود الفقري للنظام المصري ويمارس دورا سياسيا واقتصاديا مهيمنا؛ ولكن النظام العسكري المصري تطور، مثل العديد من الأنظمة العسكرية الأخرى، أيضا إلى نظام بثلاثة رؤوس؛ مع تقسيم للعمل بين تلك الرؤوس الثلاثة التي تبلور كل منها في مؤسسة منفصلة:
(أ) الجيش؛ و
(ب) قوى الأمن الداخلي التي تديرها وزارة الداخلية؛ و
(ج) الجهاز السياسي (رئاسة الجمهورية والحزب الحاكم).
ولكن بدأت أهمية الجيش، منذ أواخر السبعينيات، تتراجع سياسيا واقتصاديا لصالح المؤسستين الأخريين، بالرغم من محافظته على منزلة متميزة.(1)
فبعد حرب 1973 مع إسرائيل، وتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل (1978-1979)، وتوطيد التحالف مع الولايات المتحدة، تلاشى أكثر وأكثر احتمال نشوب حرب؛ بينما تزايدت، على العكس من ذلك، الحاجة للقمع الداخلي بسبب تزايد الفوارق الاجتماعية وفقدان الإجماع على النظام. وبمرور عشرات السنوات على نظام مبارك، زاد اعتماد النظام تدريجيا على قوى الأمن الداخلي للحصول على الدعم. ويمكن أن نستدل على ذلك بتضخم ميزانية وزارة الداخلية وعدد موظفيها، مقابل تراجع الجيش في الحجم والأهمية. (2) وبفضل سياسات مبارك الاقتصادية المتوحشة في التسعينيات، تغيّر الوصف الأمثل لمصر من «دولة عسكرية» إلى «دولة بوليسية». (3)
صعود جمال مبارك يهدد منزلة الجيش
وكانت الضربة القاضية والأخطر المهددة لمنزلة الجيش هي صعود جمال مبارك، نجل حسني، وإعداده لرئاسة الجمهورية؛ بل والأسوأ من ذلك أيضا هو الصعود السياسي والاقتصادي لمجموعة صغيرة محيطة به من السوبر-رأسماليين الفاسدين الذين نهبوا الدولة. ففي بداية العشرية الأولى، كان يهيمن على الاقتصاد المصري نحو 20-25 مجموعة تجارية عائلية تشكل الطبقة العليا من القطاع الخاص الذي نما وتوحش بتشجيع من سياسات النظام النيوليبرالية التي دشنها السادات. وعندما أصبح رجال الأعمال تدريجيا الشريك الأقوى للنظام حصدوا موقعا مؤثرا لأنفسهم في الحزب الوطني الديمقراطي، الذراع السياسي للنظام، والذي أصبحوا يدعمونه ماليا بسخاء. (4).
ثم نجحت مجموعة صغيرة من هؤلاء السوبر-رأسماليين، في عام 2004، في دخول حكومة رئيس الوزراء أحمد نظيف (2004-2011). وكانت هذه المجموعة تتكون من رجال أعمال كبار ومعروفين دوليا ومثقفين نيوليبراليين، وجميعهم من حاشية جمال مبارك. (5).
وكانت النتيجة تسارع ملحوظ في الطبيعة الافتراسية للنظام وسياساته النيوليبرالية. وأشادت المؤسسات المالية الدولية بالبرنامج الاقتصادي النيوليبرالي في مصر، مع متوسط النمو الذي بلغ 7% بين عامي 2005 و2008؛ ولكن كان يكمن خلف تلك الإشادة الدولية بلد يعاني تدهور البنية التحتية والفقر المدقع وتضاؤل شبكة الأمان الاجتماعي، وعدم القدرة على توفير مستقبل لائق لمواطنيه المحبطين ومعظمهم من الشباب العاطلين عن العمل. ولذلك، انهار تماما »العقد الاجتماعي «بين النظام والشعب؛ وهو العقد الذي بدأ يتفكك منذ السبعينيات، وانهار تماما في النصف الثاني من العشرية الأولى. (6).
لم يؤثر ترسيخ العمل بالسياسات النيوليبرالية سلبيا على سكان البلاد فحسب؛ بل أثّر أيضا على المصالح الاقتصادية للجيش، لأنه أدخل منافسين إلى مجالاته التي كانت شبه مُحتكرة له. (7) وبالإضافة إلى ذلك، كان تسارع الفروقات بين الأغنياء والفقراء وارتفاعها وعدم تكافؤ الفرص يعني أن أجهزة الأمن الداخلي، بما في ذلك شرطة مكافحة الشغب (قوات الأمن المركزي)، تحتاج لموارد مالية هائلة لمنع خروج استياء المواطنين وسخطهم عن السيطرة. (8).
وباختصار، شهدت العشرية الأولى تزايد سرعة ثلاثة اتجاهات بدأت تتبلور منذ السبعينيات، وأدت تدريجيا وببطء إلى انهيار كامل لنظام مبارك في عام 2011:
(أ) تهميش الجيش؛
(ب) تضخم هائل لقوات الأمن التابعة لوزارة الداخلية؛
(ج) زيادة الاعتماد على طبقة رجال أعمال سوبر-رأسمالية جشعة نشأت برعاية الدولة لتدير البلاد على نحو يضر بمصالح الغالبية العظمى من المصريين.
وبعد أن جرى تهميشها لصالح جهاز الأمن والجهاز السياسي لسنوات، استغلت القوات المسلحة ثورة 2011 والنكسة المؤقتة لجهاز الأمن الداخلي للتخلص من آل مبارك وأزلامهم من رجال الأعمال وأعادت التوازن إلى مثلث السلطة؛ ليصبح في صالحها. ولو لم تبادر القوات المسلحة بالسيطرة على الأوضاع ولم تتخذ تلك الإجراءات، فمن المشكوك فيه أن الثورة كانت ستستمر لفترة كافية لإجبار القيادة السياسية على التنحي، وفي الواقع، بالرغم من مشاركة ما يصل إلى 12 مليون شخص في الانتفاضة التي استمرت 18 يوما، فإن عشرات السنين من قمع نظام مبارك البوليسي للمعارضة تجعلنا نستبعد إمكانية بزوغ حركة ثورية منظمة كان يمكنها توحيد تلك الانتفاضة وتنظيمها لتسقط النظام.
إرهاصات الثورة:
«حركة كفاية» و«إضرابات العمال»
وبالتأكيد، فإن العقد الذي سبق الثورة شهد زيادة كبيرة في تعبئة الناس تجلت في أمرين:
(أ) ظهور وبروز »الحركة المصرية للتغيير «(كفاية)، التي تكوّنت من أعضاء ينتمون إلى الطبقة الحضرية المتوسطة(9)؛
(ب) تكثف إضرابات عمال الصناعة بصورة غير مسبوقة في تاريخ مصر. (10).
وأسهمت هاتان الحركتان، بقوة، في الطعن في شرعية النظام وظهور »ثقافة الاحتجاج «التي سهّلت انتفاضة 2011 العفوية؛ ولكنهما كانتا تفتقران، تماما، لقاعدة جماهيرية وخبرة سياسية ولهيكل تنظيمي قادر على تشكيل تحدٍ خطير للنظام. الأهم من ذلك هو أنه نشأت حركة «كفاية» والحركة العمالية، فضلا عن الحركات الشبابية التي عملت كمحفز لثورة عام 2011، بشكل كبير، خارج دوائر المعارضة التقليدية التي - بعد عقود من القمع والاستمالة الحكومية كان ينظر إليها على نطاق واسع بأنها غير فعالة؛ بل تعزز تقريبا قوة شرعية النظام.
.... يتبع
د. حمد العيسى - الدار البيضاء ** ** hamad.aleisa@gmail.com