أتوقف في هذه المقالة عند عدد من الكلمات المهمة في الخبر عن فك الخليل لرسالة ملك اليونان وقبل ذلك يحسن التذكير بنص الزبيدي وابن نباتة اللذين ورد فيهما الخبر, قال الزبيدي :» ويروى أن ملك اليونانية كتب إلى الخليل بن أحمد كتابًا باليونانية، فخلا بالكتاب شهرًا حتى فهمه. فقيل له في ذلك، فقال: قلت إنه لابد له من أن يفتح الكتاب ببسم الله أو ما أشبهه ، فبنيت أول حروفه على ذلك، فاقتاس لي. فكان هذا الأصل الذي عمل له الخليل كتاب (المُعـمىّ)».
وقد أورد الخبر كذلك ابن نباتة فقال وهو يتحدث عن فك المعمى :» ويسمى الآن المترجم ولها طرائق مذكورة تعين على استخراجها. وأول من وضعها الخليل واضع العروض...ثم استخرج المعمى, وهو أيضًا أول من نظر فيه, وذلك أن بعض يونان كتب بلغتهم كتابًا إلى الخليل فخلا به شهرًا حتى فهمه فقيل له في ذلك فقال: علمت أنه لابد وأن يفتح باسم الله تعالى, فبنيت على ذلك, وقست عليه, وجعلته أصلاً ففتحته, ثم وضعت كتاب المعمى.»
إن الكلمات الواردة عند الزبيدي وابن نباتة اللذين نقلا كلام الخليل عن نفسه أو وصفا ما عمل كلمات مهمة؛ لأنها كلمات دالة على الخطوات العقلية والعلمية التي اتبعها الخليل لاكتشاف علم المعمى, والكلمات هي:
علمت, وافتراضه الكلمة المحتملة وهي الكلمة الافتتاحية, وبنيت, وقست, وكان هذا الأصل (من نص الزبيدي) أو: وجعلته أصلاً (من نص ابن نباتة), وفتحت, ووضعت كتاب المعمى:
1 - الحدس والفرضية: في نص الزبيدي «قلت لابد أن يفتح «, وفي نص ابن نباتة «علمت أنه لابد يفتتح «, فـــ «علمت « و «لابد» تدلان على حدس علمي من رجل علم خبير ألمعي, وهو حدس قارب يقين العلم.
كما أنه اهتدى إلى مفتاح مهم سمي فيما بعد بــ (الكلمة المحتملة), وقد مرالحديث عن هذا المفتاح في المقالة السابقة. وكانت الخطوة البارعة أنه فكر أولاً بأن الكلمة المحتملة ستكون من التمجيدات الافتتاحية أوكما قال: « قلت لابد أن يفتح ببسم الله أو ما أشبهه» ومن خلال هذا الحدس القوي الموفق انتقل لمراحل موفقة تالية لفك معمى الرسالة.
2 - التفكير بالبنية وبناء النص وهيكله: من الخبر في نص الزبيدي: «بنيت أول حروفه», من الخبر في نص ابن نباتة: « فبنيت على ذلك «وهي خطوة مهمة تدل على نقل الفرضية من مجرد فكرة إلى قالب أو بنية معينة. وبناء الحروف هنا يقوم عنده, وفقا لقوانين علم التعمية التي أرساها ثم نُضدت لاحقًا, على مبدأ الاستبدال والاستعاضة فيستعيض عن حروف يونانية حسب تواترها وموضعها تلك الحروف التي استفادها من الكلمة المحتملة, يستبدلها وفق قانونه الخاص الذي ابتكره بحروف عربية أو رموز محددة.
3 - القياس: في نص الزبيدي: «فاقتاس لي» وفي نص ابن نباتة «وقست».
4 -تحويل تلك الفرضية إلى أصل وقانون: أي جعل البنية والقياس المعمول به أصلاً ومفتاحًا لبدء العمل به يقول «وجعلته أصلاً « .
5 -الاختبار والتجريب والفتح: فبعد الحدس والفرضية, وبعد نقل الفرضية من مرحلة الفكرة إلى القالب والبنية المختارة, وبعد القياس ينتقل إلى مرحلة تجريب المفتاح لفك المعمى بعد أن حوله إلى أصل كما قال يجرب المفتاح فينفتح له ما كان مغلقًا, يقول :»ففتحته»
6 -وضع العلم وإرساء أسسه وأصله: إذًا بعد كل تلك الخطوات العلمية واستجابة نص الرسالة لما وضعه من فرضية وما سكه من بنية محددة بوصفها مفتاحًا, وبعد أن جرب المفتاح وطبقه, واتضح له صواب خطواته العلمية تبين له أنه وضع يده على قوانين علم أرسى أصله فوضع علم المعمى, جاء في نص ابن نباتة قول الخليل في آخر الخبر: «ثم وضعت كتاب المعمى» ومن نص الزبيدي « فكان هذا الأصل الذي عمل له الخليل كتاب المعمى» تلك خطوات علمية مهمة أمكن استنتاجها من هذين النصين اللذين نُقلا عن ابتكار الخليل لعلم التعمية واستخراج المعمى. وقد عرضت في المقالات السابقة ومن خلال هذا التحليل في مقالتي اليوم ما يفند الأضلولة الأولى حول الخليل.
تم اختصار الإشارة إلى الإحالات
د. فاطمة بنت عبدالله الوهيبي
Rafeef 2010@gmail.com