إن لعبة الشمولية في الكتابة هي سلاح ذو حدين، فهي تجعل الكاتب يقف على حدين هما النجاح المبهر أو الفشل الذريع، وقلما تجد كاتباً يستطيع أن يحقق النجاح المبهر، حتى أن من فعل ذلك منهم واستطاع أن يجعل كتاباته تشمل قضايا العالم بأسره، فيحيطها بفلسفته كان لنجاحه أسباب عديدة وعوامل مختلفة لعل أهمها التجربة الحياتية المتمثلة في الغربة والحرب والنزاعات الإنسانية التي عاصرها فأثرت في عقله الذي أفرز أخيراً عصارة فكره من مقالات وقصص وروايات ونصوص مسرحية وسيناريوهات هادفة.
لكن تلك الشمولية التي نجح فيها بعض الكُتاب قد أفرزت عن شمولية مفرطة، كانت أكثر اتساعاً وأكثر استيعاباً للقضايا بشكل يفوق كل المتخصصين، بل وأنها كانت أكثر إنتاجاً وغزارة على النحو الأدبي. إذ يمر الكاتب بمرحلة يجد نفسه فيها معتكفاً على الكتابة ولا غيرها، فيخرج حرفه بعد ردح من الزمان ليناقش كل القضايا ويحلل كل الأمور ويقص هنا ويروي هناك ويقرظ الشعر هنا وهناك.
حين أقرأ مثلاً للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر أجد في شموليته المفرطة وغزارة أعماله دقة وبعداً يفوق نظرات المتخصصين في مختلف المجالات، فسارتر الذي ولد 1905 م وتوفي في عام 1980 م كان كاتباً شاملاً بشكل مفرط، فهو فيلسوف وأديب وروائي وناقد أدبي وناشط سياسي وكاتب مسرحي درّس الفلسفة في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية وانخرط في صفوف المقاومة الفرنسية السرية وتأثر عاطفياً وفكرياً برفيقته الأديبة الفيلسوفة سيمون دي بوفوار، والتي تأثرت هي الأخرى بما يحمله من أفكار.
لقد كان للوقت الذي عاش فيه سارتر وما عاصره من حروب ونزاعات إنسانية الفضل الأكبر على غزارة إنتاجه وشموليته. بل وأن تلك الظروف ولعل أقلها وطأة (الغربة والحرب) هي التي صنعت حرفه ليشكل لنفسه فيما بعد منهجاً عُرف بالوجودية، حيث اتسمت أغلب كتاباته بالصبغة الوجودية، وشق لنفسه في عالم المسرح طريقاً جديداً ومختلفاً هو الكوميديا الوجودية.
أي أن تلك البيئة وعوامل الزمن تسببا في صنع نموذج لكاتب شامل مفرط الشمولية ومبدع في أغلب جوانبه الأدبية، وهذا طبعاً إذا ما استبعدنا كثيراً من الأفكار التي بكل تأكيد لا نتفق معه فيها، وهذا النموذج يؤكد لي أنه لا يوجد نموذج آخر بذات الشمولية المفرطة مثل ماركس، وهو الآخر قد مر بظروف مشابهة رغم سبقه لسارتر من حيث الولادة ورغم ولادته في أسرة غنية. فقد تحولت كتاباته إلى تنظير اجتماعي اقتصادي فكري واجه به الرأسماليين آنذاك مما صقل حرفه وأنشأ له خطاً فكرياً تنظيرياً حتى باتت نظرياته تعرف بالنظرية الماركسية، بل وأن حكومات كثيرة قد تبنت أفكاره وطبقتها على ساحة الواقع.
ومع إعجابي وإعجاب الكثير بأدب سارتر وعدد من كتاباته، إلا أن هناك من يرى أن سارتر قد أغرق نفسه في لعبة الشمولية، حتى أضاع نفسه وتاه بين نفسه ووجوده وأدبه. يقول جان جينيه: «ولكن سارتر انتهى منذ عشرين عاماً، غرق في لعبة الشمولية، وضيعته رغبته الشبقة في أن يصبح كاتباً عالمياً». وقد نشر ذلك من حوار طويل في مجلة الكرمل عام 1982م.
وهذا ما يعيدني للقول بأن الكاتب الشمولي حتى وإن أبدع فإنه يبقى على مقربة من السقوط، فليس من الضروري أن يسير الكاتب بذات الإبداع حتى النهاية، وقد يسقط في فخ من الأفخاخ ويحسب على حزب أو أناس أو أفكار معينة بسبب محاولته الإحاطة بها.
ختام:
إنني لست شيئا،
ولست أملك شيئا.
وأنا وثيق الصلة بالعالم كالنور،
مع ذلك فإنني منفي!
«من رواية الغثيان – سارتر»
- عادل بن مبارك الدوسري
البريد الالكتروني: aaa-am26@hotmail.com ** ** تويتر: @AaaAm26