إن الدين الإسلامي هو المصنع الذي ينتج الأذكياء، فعندما تتأمل أي عملية يقوم بها الإنسان على مدار عمره فإنك تجد تطوراً في طريقة عملها ومحاولة تيسيرها لصالحه. والعلماء يقولون إن بداية الزراعة أن الإنسان الأول كان يأخذ من الغابة طعامه وشرابه، وعندما يعود به إلى مسكنه يتساقط منه بعض الحبوب والبذور، وبعد مدة رأى نفس نوعية النبات التي يأخذها من الغابة متواجدة في طريقه. حينها بدأ بزراعتها بطريقة بدائية وهي الحفر بآلة بسيطة ثم زرعها في فناء داره. ثم عندما بدأت تتطور البشرية باختلاطها ببعض تم صنع أدوات معينة لحرث الأرض، ثم بالاستعانة بالدواب، ثم في بداية القرن الماضي بدأت الزراعة بالآلات الحديثة وبدون تدخل العنصر البشري إلا في أضيق الحالات. فجميع هذه السلسلة خلال تطورها لم ينزل بها آية تعلم الناس كيف يصنعون ذلك.
ويؤكده ما جاء في الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقوم يلقحون النخل. فقال: «لو لم تفعلوا لصلح». قال فخرج شيصا. فمر بهم، فقال: «ما لنخلكم؟». قالوا: قلت كذا وكذا. قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
إن الدين الإسلامي هو من صنع هذا الإنسان المفكر والمنتج وعلمه أن يعمل عقله ويتماشى مع جميع العصور ويتناغم مع الحركة الدءوبة للحياة (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم) فالإسلام جاء ليصنع الإنسان والإنسان هو من يصنع الحياة!. فعلى جميع الشباب أن يستوعبوا التطور في العالم ويضعوا لهم بصمة في هذا الكون مع شركائهم في الإنسانية. فيجب على المتنفذين في عالم الثقافة والدين أن يمهدوا الطريق للشباب المسلم لأن يخرج بالإسلام لا على الإسلام، فهذا هو الطريق الأمثل للربط بين ما هو موجود من تعلم العلوم المادية والفكرية وبين المنبع الذي لا ينضب وهو الإيمان النفسي المستمد من الدين الإسلامي (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا). فهذا المزج دليل على قدرة الشريعة الإسلامية على احتواء جميع أبنائها على اختلاف تخصصاتهم ومرجعياتهم الثقافية.
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} فالقرآن الكريم خاطب الإنسان لأن المدار حوله والتكليف يقع عليه. فكل ما يأتي من الإنجازات والاختراعات باختلاف أنواعها وأجناسها إلا وللإنسان يد فيها. فالإعجاز الحقيقي إذاً إنما يكون في خلقة هذا الإنسان، ولهذا جاء الخطاب القرآني في مواضع عديدة يخاطب هذا المخلوق فيوضح تارة له أنه اعتنى به بتسخير الأرض له وتمكينه منها حتى يبدع فيها وينجز {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور} وتارة يرشد إلى السبيل في تهذيب النفوس وتقويم الأخلاق {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} ويدلنا على أنجح الطرق لبناء هذه الشخصية في آيات بديعة ابتدأت بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} وأمر بتفعيل العقل مع تسخيره لآلاته في حدود ضوابطه فقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}. هنا تتضح الصورة في أن القرآن الكريم والسنة النبوية لم تأت لتخاطب الطبيب والمهندس والاقتصادي والفلاح والراعي كل في تخصصه، مع أنه أشير فيهما إلى كل علم من علوم الدنيا من قريب أو بعيد، علمناه أو جهلناه، مادي كان أو مخاطبا للشخصية الإنسانية {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} وإنما خاطبت القاسم المشترك بينهم وهي كونهم جميعا يحملون الهوية الإنسانية وأسهب فيها وفصل لكونها جامعة لكل الآراء والأعراق والشخصيات وأذواقهم ورغباتهم.
إبراهيم الأخضر بن علي القيّم - شيخ القراء بالمسجد النبوي